​​​​​​

الجنوب بين مطرقة الانهيار الاقتصادي وسندان الابتزاز السياسي

د. عديل الطهيش

 


في زوايا الجنوب المتعبة، حيث تتقاطع آمال التحرر مع خيبات الواقع، تتعالى اليوم أنات الناس، ويزداد الغضب اتساعاً في صدور الجياع والمقهورين، احتجاجاً على تدهور اقتصادي مريع، وانهيار شبه كلي للخدمات الأساسية، وارتفاع جنوني للأسعار، وانقطاع خدمات الكهرباء والماء،  الخدمات الصحية و التعليمية، تنذر بانفجار اجتماعي غير مسبوق، وتضع مستقبل قضيته على مفترق طرق. 

 مشهد مرير يتكرر يومًا بعد يوم، حيث تغيب الدولة وتتقوض الخدمات، ويعلو صراخ الجياع في أزقة عدن والمكلا، وتحتدم مشاعر السخط في لحج وأبين، وتنتشر مظاهر الغضب في الضالع وشبوة وسائر مدن الجنوب، احتجاجًا على واقع لم يعد يُطاق، وانهيار لم تعد تسنده حتى فتات الوعود. لم يكن لهذا الانهيار أن يبلغ هذا الحد لولا تآمر منظم، يتقاطع فيه الإهمال مع الاستهداف، وتُنسج خيوطه بين أطراف تتشارك هدفًا خفيًا هو تركيع الجنوب وكسر إرادة شعبه، عبر أدوات التجويع والحرمان والتشويه.

ليس من المنطق أن تُختزل هذه الكارثة في سوء إدارة أو عجز خدماتي، بل بات من الواضح أن الجنوب يتعرض لحرب اقتصادية ممنهجة، تُدار بأيدٍ داخل ما يُسمى بالشرعية، وتُغذّى بصمت قاتل من المجلس الرئاسي، وتُبرَّر تحت شعارات باهتة عن الوحدة والدستور. الحكومة الشرعية التي تقيم خارج البلاد، وتتحكم بالاقتصاد عن بُعد، تواصل خنق عدن والمدن الجنوبية عبر تجميد المرتبات، وإضعاف العملة، والتلاعب بالإيرادات، وحرمان الناس من الخدمات الاساسية ، في مشهد لا يعبّر إلا عن نية مبيتة لتحويل الجنوب إلى منطقة منكوبة، تُحمّل كل تبعاتها للمجلس الانتقالي الجنوبي، الذي لا يمتلك كامل أدوات السلطة، ولا يسيطر على القرار الاقتصادي، بل يجد نفسه في مرمى نيران المأساة، وهو شريك شكلي في حكومة تُمارس الابتزاز باسم التوافق، وتُدار من قبل قوى فاشلة في تحرير الشمال، لكنها نشطة جدًا في محاصرة الجنوب، سياسيًا وخدميًا واقتصاديًا.

لقد مرت عشر سنوات على تحرير عدن، ولم تتحرك هذه القوى خطوة واحدة لاستعادة صنعاء، وكأن بقاء الحوثي صار ضرورة سياسية لبقاء معادلة "اللاحرب واللاسلم" التي تُمكّن النخب التقليدية من مواصلة نفوذها، وإبقاء الجنوب في حالة احتقان دائم. فكل المشاريع التي انطلقت لإعادة الإعمار وتنمية المناطق المحررة تآكلت، وكل الأمل الذي زرعته تضحيات الشهداء في النفوس تراجع، فيما ظلت مافيا الفساد تعبث بالمؤسسات وتسرق الموارد وتغذي الفوضى، غير آبهة بما يعانيه المواطن الجنوبي، ولا بما تنطوي عليه تلك السياسات من مخاطر كبرى على مستقبل المنطقة.وسط هذا المشهد، خرجت التظاهرات الشعبية، لا تمردًا على المشروع الوطني الجنوبي، بل دفاعًا عنه، لا طعنًا في الانتقالي، بل مناشدة له. فالشعب الذي صبر سنوات على المعاناة، ووقف في وجه الغزاة، وواجه الإرهاب، وأحبط المؤامرات، لن يسكت على جوعه إلى الأبد، ولن يقبل أن يتحول إلى وقود لحسابات نخبوية أو رهينة لتحالفات عبثية. غير أن الأخطر من الأزمة نفسها هو ذلك الاستغلال الخبيث لمعاناة الناس، من قبل خصوم الجنوب الذين يركبون موجة الغضب لتأليب الشارع على قيادته، وتصوير التدهور على أنه فشل داخلي محض، في حين أن أدوات التحكم الحقيقي تظل بيد من هم خارج الجنوب، يخططون من مأرب والرياض، ويتآمرون من عمّان والقاهرة.

إن المجلس الانتقالي الجنوبي، وهو حامل راية المشروع التحرري ، يقف اليوم أمام تحدٍ تاريخي، لا يقتصر على الحفاظ على منجزاته، بل يتطلب تحويلها إلى مشروع وطني متكامل قادر على حماية الجنوب من التحديات السياسية والاقتصادية المقبلة. وهذا يبدأ بإعادة تموضع سياسي واضح، يعيد تعريف العلاقة مع الحكومة والمجلس الرئاسي على أساس الندية والمصلحة الوطنية.
ان المجلس الانتقالي،  مطالب اليوم بالانتقال من مربع التوضيح إلى مربع الفعل، ومن خطاب الدفاع إلى خطاب الهجوم السياسي المنظم وعليه أن يُشخص الأزمة بدقة، ويسمّي المتسببين بأسمائهم، ويُعلن صراحة عن حقيقة ما يجري من تدهور اقتصادي، ويكشف للرأي العام كيف تُمنع الإيرادات من الوصول إلى عدن، وكيف تُستخدم البنوك لليّ الذراع، وكيف يُمنع الاستثمار في الجنوب ويُشجّع في الشمال. 
وعلى الصعيد الشعبي، من الضروري تعزيز التواصل مع المواطنين، والاعتراف بالإخفاقات إلى جانب المنجزات، وتوسيع التحالفات على قاعدة وطنية جامعة بعيدًا عن الحزبية والمناطقية.

كما لايمكن إغفال أهمية الجبهة الإعلامية والثقافية، في مواجهة حملات التشويه وبناء وعي جنوبي متماسك ، وحده هذا النهج المتكامل، كفيل بتحصين الجنوب، واستعادة دولته المنشودة على أسس عادلة وراسخة.وفي الوقت ذاته، على الانتقالي أن يتعامل بوضوح مع التحالف العربي، خصوصًا السعودية، التي تُمسك بخيوط اللعبة الاقتصادية، وتغض الطرف عن تجاوزات الحكومة الشرعية، وصمتها المريب على تعطيل الحسم العسكري في الشمال .ان الجنوب لا يرى في التحالف خصمًا، بل شريكًا استراتيجيًا، لكنه شريك مطالب اليوم بأن يكون أكثر وضوحًا في مواقفه، وأكثر إنصافًا في دعمه. لم يعد من المقبول أن يُترك الجنوب يواجه الانهيار بمفرده، في حين تُغدق الأموال والسلاح على مناطق لا تزال عاجزة عن تحرير شبر واحد. يجب أن يُطالب المجلس بدعم اقتصادي مباشر للجنوب، لا يمر عبر قنوات الشرعية، وبإشراك الجنوب كطرف مستقل في أي مفاوضات سياسية تخص مستقبل اليمن. 
 لقد بات الاقتصاد  محور الصراع، ولا بد من إعلان طوارئ اقتصادية جنوبية، وإدارة مؤقتة للموارد السيادية بهدف تأمين المرتبات وتحسين الخدمات، ضمن آليات رقابة شفافة كما يجب تفعيل الأجهزة الرقابية، ووقف طباعة العملة، ومحاسبة المتورطين في الانهيار الاقتصادي والخدمي. 

وإذا لم يتحرك الانتقالي اليوم، فقد يجد نفسه غدًا في مواجهة موجة غضب لن تميز بين صديق وعدو، ولن تنتظر توضيحات أو بيانات. فالشعب الذي صبر طويلًا لا يمكن أن يُطلب منه مزيد من الصبر دون مقابل، وإذا شعر بأن من يمثلونه لا يدافعون عنه في لحظات الجوع والانطفاء، فقد يبحث عن بدائل، وهذا هو ما يريده أعداء قضية شعب الجنوب .

إن الجنوب اليوم أمام اختبار حقيقي، اختبار للوعي قبل السياسة، للثبات قبل الخطاب، للقدرة على تحويل الألم إلى وعي، والمعاناة إلى قوة دفع لا إلى انقسام. ورغم كل الجراح، لا يزال هناك أمل، لأن هذا الشعب الذي تجاوز الحروب، وتحدى الاحتلال، وواجه الإرهاب، قادر على تجاوز الجوع والظلم والمؤامرة، فقط إذا شعر بأن من يقف في المقدمة، يشاركه المعاناة، ويعمل من أجله، لا من أجل ذاته أو موقعه.

سيبقى الجنوب، ما بقي هذا الشعب، شوكة في حلق الطامعين، ونقطة مضيئة في جغرافيا الانكسارات ، قد يُحاصَر اقتصاديًا، وقد يُستهدف سياسيًا، لكنه لا يُكسر، لأنه ببساطة لم يُبْنَ على الرفاه، بل على الصبر، ولم يتأسس على الرخاء، بل على النضال.