​​​​​​

جدارن مثقوبة

منال محمد

"كنت الطفلة الوحيدة بين أربعة أبناء لأم وأب مختلفين في كل شيء، إلا في تعنيفي والانتقاص مني بحجة أنني بنت مكاني المطبخ وخدمة إخوتي"، هكذا بدأت ريم سالم، اسم مستعار، سرد قصتها لـ "هودج"، تقول: "لا زلت أتذكر تلك الجملة: أنتِ بنت! يعني لا شيء، أما أكثر المشاهد حضورًا في ذاكرتي، فتلك التي كنت أتعرض فيها للضرب لأقل هفوة يمكن أن تحدث من قبل أية طفلة صغيرة".

كبرت ريم ولا زالت الأمور على حالها، "حتى وأنا في الجامعة كان الضرب رفيقًا لي، إضافة للحرمان من المصروف والإهانات اللفظية، على الرغم من تحملي شغل البيت إلى جانب دراستي".

 

خلاص

فكرت ريم في طرق للخلاص من تلك الأجواء الصعبة أكثر من مرة، "كنت أتوق لأن أتزوج حتى أغادر بيتنا إلى بيت آخر أجد فيه سعادتي وهدوئي"، لكنّ المنقذ لم يأتي، كما تقول، بل توسعت دائرة تعنيفها أكثر حين منح الوالدين سلطة قمعها للأخوة.

تضيف ريم: "تأخر هذا اليوم كثيرًا، لكني اجتهدت في دراستي حتى تخرجت، ثم تمكنت من الحصول على وظيفة سعيًا لإثبات وجودي وفرض واقع جديد، إلا أن سلطة البيت تظل الأقوى، فما إن يأتي موعد استلام الراتب حتى يخطفه والدي من يدي قائلًا: صرفت عليك ما هو أكثر"، وتكمل: "أسلوب أمي لم يختلف كثيرًا، كان كلامها يقول: أنا تعبت في تربيتك، والآن دورك في خدمتي وخدمة إخوتك".

وتعرّف الأمم المتحدة العنف الممارس ضد المرأة بأنّه: "أيّ فعل عنيف تدفع إليه عصبية الجنس، ويترتب عليه أذى أو معاناة للمرأة، سواء من الناحية الجسمانية أو الجنسية أو النفسية".

الأسباب

تتنوع أسباب العنف الموجه ضد النوع الاجتماعي بين اجتماعية ونفسية واقتصادية، تقول القائمة بعمل رئيسة فرع اتحاد نساء اليمن في مدينة تعز، صباح راجح: "العنف الأسري ظاهرة مجتمعية زادت حدتها في ظل الصراعات والحروب، والأوضاع الاقتصادية المتدهورة، وارتفاع منسوب الضغوط الحياتية المحيطة بالإنسان، حيث يلجأ الرجل لممارسة العنف ضد المرأة كتفريغ للطاقة السلبية التي يكتسبها من البيئة المحيطة به بسبب مشكلات العمل والدخل وغير ذلك"، وتوضح: "من صور العنف الأسري الشائعة حرمان الفتاة من التعليم، والزواج المبكر، والختان، والتمييز بين البنت والولد، وإساءة المعاملة".

ووفقًا لتقديرات صندوق الأمم المتحدة للسكان، فإن نحو ثلاثة ملايين امرأة وفتاة في اليمن عرضة للخطر، مشيرًا إلى أن العنف الاجتماعي في اليمن منتشر حتى في زمن ما قبل الحرب، وأوضح الصندوق: "منذ بداية الأزمة، أدى النزاع الحالي إلى نزوح عدد كبير من السكان معظمهم من النساء بنسبة 52%، ما يعرضهنّ لخطر العنف القائم على النوع الاجتماعي في جميع أنحاء البلاد".

التقرير الصادر عن الصندوق تضمن أيضًا: "أشد أنواع العنف الذي تتعرض له المرأة اليمنية هو العنف العائلي الذي يكون ناجمًا من أفراد الأسرة، سواء كان الزوج أو الأخوة أو حتى المقربين"، وعلى الرغم من صعوبة الإبلاغ وحساسية الاعتراف بالتعرض للعنف بسبب هيمنة التقاليد المحلية، ما يزال مؤشر الناجيات في ارتفاع، حيث بلغ مؤخرًا نسبة 70% في بعض المحافظات، بحسب التقرير.

ويعتبر العنف آلية لإخضاع النساء، وينشأ بسبب الشعور بالتفوق أو الاستحقاق أو كره النساء، وقد يكون لطبيعة الإنسان العنيفة دور في ذلك.

 

استغلال

وعن الجوانب الكامنة في الموروث اليمني الاجتماعي والعناصر المرجعية التي يستند إليها الآباء للسيطرة على أبنائهم، يقول الباحث والناقد الأكاديمي، الدكتور فارس البيل: "لا توجد أبعاد دينية لتحريض الآباء على أبنائهم، بل ما يجري استغلال لبعض النصوص التي لم تثبت صحتها، أو لم يستقم سند روايتها في الأغلب".

ويضيف: "النصوص الدينية تحدد نوع العلاقة بين الآباء والأبناء، إلا أن تغليب العرف على الدين مكن الآباء من تكريس سلطة أبوية مبالغ فيها حولت الأبناء إلى مجرد خدم. صحيح أن الطاعة واجبة، لكن على الآباء معرفة أن آيات التكريم جاءت مذكرة إياهم بأدوارهم في التربية الحسنة والمودة والرحمة".

مساحات آمنة

بحسب دليل "المساحات الآمنة للنساء والفتيات" الخاص بالأمم المتحدة للسكان، تعرف المساحة الآمنة بأنها: "مكان رسمي تشعر فيه النساء والفتيات بالأمان الجسدي والعاطفي"، ويشير مصطلح "آمن" في هذا السياق إلى غياب الصدمات والإجهاد المفرط والعنف أو الخوف من العنف.

وتُعدّد مشرفة إدارة الحالة الراصدة لمنظمة ديم للتنمية في مدينة تعز، سلوى أمين، أماكن المساحات الآمنة للنساء المعنفات في محافظة تعز بقولها: "موجودة في كل من مديرية المظفر في وادي المعسل بالمدينة، وفي مديريتي الشمايتين والمعافر في ريف المحافظة، كما توجد مساحات في منطقة الحوبان شمال شرق المدينة حيفان والأغوال".

وتضيف: "إدارة الحالة تعني اكتشاف ورصد الحالات المعنفة في المجتمع، وتقديم الدعم النفسي العام والمتخصص، إلى جانب الدعم القانوني والخدمات المناسبة لكل حالة، وذلك من قبل مديرات الحالة اللواتي بينهنّ  أخصائيات نفسيات واجتماعيات".

وتندرج تلك الخدمات ضمن مشروع حماية المرأة، وتقوم به إدارة الحالة، وهي خدمة متوفرة ومتاحة في مديريات صالة، وصبر الموادم، والمسراخ، والمعافر، والتربة، بحسب سلوى أمين، وتضيف: "تبدأ العملية بتهدئة الفتاة أو المرأة المعنفة، وتوفير مكان مناسب للجلوس معها، والإنصات الجيد لها، ومن ثم البحث في أسباب العنف الواقع عليها، والسعي لإيجاد الحلول المناسبة من وجهة نظر الفتاة بواسطة عدد من الجلسات تتحدد وفقًا لحاجة كل حالة".

 

أقل مراعاة

وحول مدى كفاية المساحات الآمنة بطبيعتها الحالية في استيعاب النساء الناجيات من العنف، تصف الناشطة في مجال العنف القائم على النوع الاجتماعي، سلوان العريقي، الخدمات المقدمة للناجيات من منظمات المجتمع المدني بأنها "أقل مراعاة لأبعاد المشكلة"، وتوضح: "تعمل الكثير من المنظمات المحلية والدولية على برامج ومشاريع العنف القائم على النوع الاجتماعي بغرض توفير خدمات متعددة للنساء دون التدقيق في فعالية هذه الخدمات ومقدار أثرها".

ثمة اتجاه آخر للمشكلة من نظر العريقي يتمثل في قصور بعض التشريعات والقوانين الدستورية ذات العلاقة بتجريم العنف، تقول العريقي: "نحتاج إلى تشريع واضح ورادع ينص صراحة على تجريم العنف بأنواعه ضد المرأة، حتى لا نظل ندور في نفس الدائرة"، واصفة القانون اليمني بصيغته الحالية بكونه "لا يوفر الحماية للنساء اللاتي يتعرضنّ للعنف الأسري والمجتمعي".

وتقول الناشطة الحقوقية غزة يحيى: "قد تعرض الإجراءات القانونية الفتاة أحيانًا لمزيد من العنف من قبل الأسرة، كما أن المرأة ذات الاستقلالية المالية مثلها مثل غير العاملة تخضع للسلطة الذكورية من قبل الأب أو الزوج".

التوعية الفاعلة بمخاطر العنف الاجتماعي ضد المرأة، إلى جانب إيجاد معالجات حقيقية عميقة لأسبابه، والعمل في اتجاه تمكين المرأة وتحقيق المساواة، خيارات مطروحة للحد من العنف، إلا أنها بحاجة لمزيد من التفعيل والتعزيز لتحقيق نتائج أكثر واقعية.

 

نشرت هذه المادة في منصة هودج على الرابط التالي:


.hodaj.net/posts/jdrn-mthqwb