في اليمن.. عرائس مكرهات يقتلهن الصمت!
لم تكن هدى قد أطفأت بعد شمعتها التاسعة عشر، حين أجبرت على هجر أحلامها بأن تصبح طبيبة، والانتقال مُكر...
تعيش سبأ (اسم مستعار)، مع شقيقاتها، في إحدى قرى اليمن المعلقة على الجبال. منذ وفاة والدتها، وجدت الشابة نفسها، وهي في العشرينات من العمر، مسؤولة على عائلة جميع أفرادها من الإناث، في ظل الغياب الطويل لوالدها في محافظة أخرى؛ بحكم عمله.
تعتمد هؤلاء الفتيات في معيشتهنّ على المال الذي يقوم والدهنّ بإرساله نهاية كل شهر، وتواجه سبأ صعوبة لدى ذهابها لاستلامه من مصرف السوق البعيد.
الأمر له علاقة بالحضور الطاغي للوصاية الذكورية في قريتها، كما في معظم الريف اليمني، على أن حرمان النساء استقلاليتهنّ في التنقل والسفر، مظهر بارز لهذه الوصاية.
ففي حال لم تجد الأنثى مَن يرافقها من أقربائها الذكور، ويطلق عليه "محْرم"، ربما لا يكون بمقدورها الانتقال إلى محافظة أخرى، والأسوأ أنها قد تمنع من الذهاب للتسوّق وحيدة.
وعلى ما يبدو، يصبح الأمر أكثر تعقيدًا عندما تخلو العائلة من الذكور، كما هو الحال في عائلة سبأ.
تسرد الشابة تجربتها لـ"هودج" قائلة: "حتى أستلم الحوالة المالية من والدي؛ أضطر، في كل مرة، لاصطحاب أحد أطفال القرية، فأذهب وأحاول شراء مواد غذائية تكفي لشهر على الأقل. في الواقع، الطريق آمنة، ويمكنني ، وكذلك غيري، الذهاب والعودة بمفردي، لكن ذلك قد يجلب لي سمعة سيئة بين نساء ورجال القرية، أنا في غنى عنها".
كيلومتر
الفقه الإسلامي يحتم على المرأة، قبل خوض رحلة تمتد "مسافة تزيد عن (80 كيلومتر)، أن يكون معها محرم، أو رفقة نساء آمنة، وأن يكون لباسها ملتزمًا بشروط اللباس الشرعي"، بحسب علي عبدالله حميد، رئيس قسم الدراسات الإسلامية في كلية الآداب - جامعة تعز.
يُسوغ "حميد" وجود الفتوى بأنه "حتى لا تتعرض المرأة المسافرة للأذى، وتشعر بأمان"، لكنّه يقرن مخالفتها بعقوبة أخروية؛ باعتبار ذلك "مخالفًا لأمر النبي - صلي الله عليه وسلم - بقوله: (لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم)".
الوصاية الذكورية على المرأة، باعتقاد محمود البكاري، أستاذ علم الاجتماع: "عادة اجتماعية ناتجة، في جزء منها، عن التفسير الخاطئ للنص الديني؛ وهو القوامة للرجل؛ بحكم القدرة على الإنفاق".
"هناك من يتخذ من ذلك مبررًا لكبح المرأة عن ممارسة أي دور في المجتمع، والبعض يوافق على جزء من حقوق المرأة في الحياة، ويرفض الجزء الآخر"، يوضح البكاري لـ"هودج".
سفر المرأة بمفردها مؤشر بارز على القيود المفروضة على حرية المرأة في الوطن العربي، كما ذهب موقع "الباروميتر العربي" خلال تقرير في هذا السياق، نهاية شباط / فبراير قبل الماضي.
في التقرير، جاء لبنان أكثر انفتاحًا حول سفر المرأة بمفردها بنسبة تأييد%76 ، في حين حل المغرب ثانيًا، والجزائر ثالثة، والكويت رابعة، ومصر خامسة، والسودان سادسًا، والأردن سابعة، ليتذيل فلسطين القائمة بـ21 %.
عائق رئيس
في دراسة البنك الدولي "وضع المرأة اليمنية: من الطموح إلى تحقيق الفرص 2014م"، اعتُبرت الوصاية الذكورية على انتقال المرأة وسفرها بأنها من العوائق الرئيسة أمام إكمال الفتيات الريفيات تعليمهنّ، خصوصًا إذ خلا المحيط القريب من مدرسة ثانوية.
ومع أن مقترح توفير مواصلات آمنة، بما فيها تقديم حوافز نقدية، إلى المدارس، الذي عرضه البنك على الأهالي في ورش بؤرية، سيخفف من الهواجس حول سلامة وسمعة الفتيات، "إلا أن أولياء الأمور لم يقتنعوا، بالكامل، بأن ذلك يشكل حلًا بذاته".
حظيت فكرة الحوافز النقدية بتأييد الإناث، لكن مع الحاجة إلى مرافقة الأب أو الابن للبنت أثناء الذهاب للمدرسة، وفقًا للدراسة.
الحال لا يمثل أفضلية كبيرة في المدن؛ حيث فتيات كُثر، بينهنّ جامعيات وموظفات، حرمنّ من فرص عمل، وتدريب، وحضور مؤتمرات، وغيرها؛ لمجرد أنها تتطلب انتقالهنّ إلى محافظة أخرى، أو السفر إلى الخارج.
تقول صحافية، طلبت التحفظ عن هويتها: "استُدعيت في إحدى المرات للمشاركة في برنامج تدريبي صحافي مهم للغاية، أنا مقيمة في مدينة الحديدة، وكان عليّ السفر إلى حضرموت، وذلك يستغرق يومين على الأقل، وقد مانع أهلي، بقوة، أن أسافر بمفردي".
وتضيف: "كان الحل أن يرافقني أخي في السفرية؛ فعرضت ذلك على الجهة التي استدعتني؛ على أمل أن تتكفل ببدل المواصلات والسكن لي وله، لكنّهم عبروا عن أسفهم؛ لأنّ ميزانيتهم لا تسمح".
حق غير مكفول
بجانب اشتراط استصدار جواز السفر بالإذن الخطي لولي أمرها، لا يمنح الدستور اليمني المرأة "الاستقلالية في التنقل والسفر، ولا يحق لها ذلك إلا بإذن ولي أمرها؛ سواء كان والدها، أخوها، أو زوجها"، حسب المحامي والمستشار القانوني، خالد الكمال.
يضيف، وهو رئيس مؤسسة الكمال للمحاماة والاستشارات القانونية، لـ"هودج": "قانون الأحوال الشخصية نص، صراحة، على ضرورة حصول المرأة على موافقة زوجها، إذا رغبت في السفر، وهذا الحق للزوج طالما في حدود المشروعية، دون تعسف الزوج في استعمال حقوقه".
هذا على الرغم من أن "التنقل من مكان إلى آخر، في الأراضي اليمنيـة، حق مكفول لكل مواطن"، وفقا للمادة (57) من الدستور ذاته، ومواد مماثلة في قوانين ومعاهدات دولية صادقت عليها اليمن.
وفيما يصادر حق المرأة، هذا، دونما إحداث ضجة، فإن ممارستها له لا يمر، قطعًا، بذات الهدوء.
يشير "الكمال" إلى وجود تبعات قانونية ضد المرأة في حال انفردت بقرار سفرها؛ "كأن يرفع عليها الزوج أو ولي الأمر دعوى؛ إذ له الحق في إيقافها أو معاقبتها، بحسب القوانين".
"ستعد قضية غير جسيمة، وتتراوح عقوبتها بين حبس ثلاث سنوات فأقل، ممكن غرامة، ممكن يحكم بحبسها ستة أشهر مع وقف التنفيذ. هذه مسألة تقديرية من القاضي"، قال الكمال.
وقال "علي حميد": "بالنسبة للعقوبات الدنيوية، فلا يوجد، إلا أنه يحق لولي أمرها معاتبتها وعقابها بالطريقة التي يجعلها لا تكرر الخروج بدون إذنه؛ وهي عقوبة تعزيرية تعود إلى العرف، وليس لها نص".
الحرب غير بريئة
طول الطرق بين المدن، وافتقارها إلى الأمان، علاوة على الانتشار الكثيف لنقاط التفتيش؛ نتيجة لتموضعات أطراف النزاع بدءًا من العام 2015م، أثر، كذلك، سلبًا على استقلالية التحرك والسفر بالنسبة للمرأة في اليمن.
تقول المحامية إشراق المقطري، عضو اللجنة الوطنية للتحقيق في ادعاءات انتهاكات حقوق الإنسان: "كانت نقاط التفتيش، وما تزال، هي إحدى صور وقنوات احتجاز واعتقال وتقييد الحريات التي تطال الجميع؛ سواء رجال أو نساء".
وبخصوص النساء، توضح: "يُطلب منهنّ هويّاتهنّ، ويُبحث ما إذا لهنّ قريب في الباص أو لا.. وحدث أن احتجزت فتيات؛ بسبب سفرهنّ بغير محرم. هذا مخالف لحقوق الإنسان، وغير قانوني، ناهيك عن عدم توفير بعض النقاط شرطة نسائية".
"المقطري" نوهت بأن تضييق الجنود، في نقاط التفتيش، على النساء سلوك لا يعبر بالضرورة عن جهة انتمائهم، عدا أن الأمر كاد يأخذ طابعه الرسمي عندما أصدرت جماعة أنصار الله تعميمًا، في مارس / آذار 2019م، يحظر سفر المرأة دون "محرم"، ووزعته على شركات النقل البري في مدينة صنعاء.
واجهت نساء، بالفعل، صعوبة في حجز تذاكر سفر مع غياب المحرم، بموجب تعميم الحوثيين، من بينهم الصحافية المستقلة فاطمة الأغبري.
"ما حدث معي كان في عام 2019م، حين رفض مكتب "راحة" (شركة نقل بري) أن أقطع تذكرة سفر بدون محرم"، قالت فاطمة.
وتضيف لـ"هودج" إن رفض المكتب تسبب لها بالانزعاج الشديد؛ "لأنّه كان باقي على سفري، إلى خارج اليمن، ثلاثة أيام"، وعندما طالبتهم بالتعميم، "قالوا إنهم أبلغوهم بذلك".
وحتى بعد أن "تدبّرت أمرها"، وسافرت مع إحدى العائلات، تبنت الأغبري حملة ساخطة عبر حسابها في فيسبوك ضد "القيد الحوثي ذاك"، وفيما كانت تبحث عن الهدف من وراء إصدار التعميم، كانت تسمع عن أنه "لمنع الفتيات من الهرب".
نشرت هذه المادة في منصة هودج على الرابط التالي: