في اليمن.. عرائس مكرهات يقتلهن الصمت!
لم تكن هدى قد أطفأت بعد شمعتها التاسعة عشر، حين أجبرت على هجر أحلامها بأن تصبح طبيبة، والانتقال مُكر...
"امرأة يمنية كافحت وتعلمت في زمنٍ كان التعليم فيه حكراً على الرجل ومرفوضاً للمرأة التي كان يُنظر إليها على أنها "شغَّالة"، أو ربة بيت، تهتم بزوجها وأطفالها، وتعمل في الحقل..."
“وداعاً انها النهاية والنهاية لا بداية لها”، كانت هذه الكلمات آخر ما دونته الشاعرة اليمنية فاطمة العشبي قبل أيام قليلة من الإعلان رسمياً عن رحيل المرأة التي مثلت شخصية بارزة بين اليمنيات، بعد مسيرة تحدٍ عبرتها على امتداد ما يربو على نصف قرنٍ، واجهت خلالها صنوف الموروث التقليدي ضد النساء والعادات الاجتماعية وسطّرت قصائد الحب والحياة والحرية.
فاطمة العشبي، كما يقول لـ”درج” الشاعر عبدالمجيد التركي، “امرأة يمنية كافحت وتعلمت في زمنٍ كان التعليم فيه حكراً على الرجل ومرفوضاً للمرأة التي كان يُنظر إليها على أنها “شغَّالة”، أو ربة بيت، تهتم بزوجها وأطفالها، وتعمل في الحقل، وتطعم أبقار وأغنام زوجها، وتجمع الحطب من السهول والجبال، وتجلب الماء من السواقي”.
ويضيف أن فاطمة “ناضلت ودفعت ثمن نضالها من صحتها وشبابها، ومن إرثها الذي حُرمت منه، بعد أن وقفت أمام أبيها الشيخ الثري، واختارت أن تتعلم وتلتحق بموكب الضوء”. ما يميزها، بحسب التركي، أنها “ناضلت بصمت، ولم تلجأ للصراخ عبر مايكروفونات المنظمات الحقوقية والاجتماعية، فصنعت نفسها دون الاتكاء على أحد، وحاربت الجهل الذي يحيط بها ويحاصرها، وكان بإمكانها أن تعيش حياة رغيدة وهانئة في بيت والدها الإقطاعي، الذي حفر لها قبراً في حوش منزله ليدفنها حيةً إن هي تمردت على أعراف القبيلة التي كان هو شيخها. لكنها تمردت، وتعلمت، وتخرجت لتصبح باحثة في مركز الدراسات والبحوث اليمني، فأصدرت عدداً من الدواوين، وأصبحت من أهم الشاعرات اليمنيات.. ولا عجب أن البيئة التي حاربتها لتمردها، أصبحت تفتخر بها بعد أن أزهرت في صحرائهم القاحلة”.
العشبي، التي تصفها الشاعرة المغربية فاطمة بواهركة في مقدمة الكتاب التأبيني الذي صدر في اربعينية رحيلها، بـ”أم الصحوة النسائية اليمنية المعاصرة فكريا”، من مواليد العام 1959، وتنحدر من أسرة مشيخ في محافظة المحويت شمالي البلاد. عاشت في ظروف اجتماعية وثقافية، جعلتها أمام معركة فرض ذاتها، معلنة التمرد على العادات والتقاليد الرجعية بالموقف والكلمة التي طوعت فيها موهبتها الشعرية.
وعلى الرغم من أن فاطمة العشبي، بنظر العديد من اليمنيين والمهتمين، لم تنل حقها بالنظر إلى ما تمثله في مسيرة المرأة اليمنية وكشاعرة وأديبة، إلا أن الصفة التي ظلت تلازم الحديث عنها، تتمثل في كونها المرأة التي لم تستسلم أمام الضغوط والتحديات، لكنها بعد سنوات طويلة من المعاناة مع السرطان، بلغت “النهاية”، كما أطلقت عليها، حيث توفيت في لندن في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، تاركة إرثاً أدبياً وثقافياً وفكرياً غنياً، فهي امتلكت من المثابرة ما تغلبت به على التجربة الاجتماعية القاسية في حياتها.
فاطمة العشبي
إالعشبي التي فضلت قضاء سنواتها الأخيرة بعيداً عن اليمن، تجاوزت بشخصيتها الهم المحلي، إلى الحضور عربياً، وهو ما عبرت عنه فعالية التأبين في ذكرى وفاتها، والتي أقيمت في المغرب العربي، بمبادرة صديقتها الشاعرة فاطمة بوهراكة، حيث جرى توقيع كتاب “فاطمة العشبي.. نبض لا يموت”، تضمن جملة من الكتابات والقراءات الأدبية في سيرة وحياة “بنت الشيخ”، وهو الوصف الذي حمل أحد عناوين أعمالها الشعرية.
سادنة الشعر اليمني
وفي حديثها لـ”درج”، تقول بوهراكة إنه لم يسبق لها “اللقاء المباشر مع الشاعرة، لكنني تعرفت عليها من خلال الإنترنت وأنا أشتغل على كتابي التوثيقي الأول (الموسوعة الكبرى للشعراء العرب) عام 2009…من خلال تواصلي المتقطّع معها بسبب مرضها واختفائها لأسابيع اكتشفت في شخصيتها القوة والتحدي مع مسحة الفكاهة الواعية بمجريات الحياة التي ابتسمت لها الراحلة رغم قساوتها الشديدة عليها، فاطمة العشبي، سادنة الشعر اليمني صاحبة المواقف الإنسانية العالية، استحقت بكل جدارة اهتمامنا بها في المغرب وتنظيم حفل تأبيني كنا نتمنى انطلاق شرارته من بلدها اليمن الذي ناضلت منه وله بأعلى صوتها، هذا الصوت الذي سمعناه رغم محاولة القبيلة إخماده، وهو وفاء طبيعي لامرأة نذرت نفسها للإنسان كإنسان بعيدا من جنسه أو دينه أو عرقه”.
خلال مقالته تضمنها الكتاب التأبيني، يقول المحامي عبدالسلام العبسي، وهو ابن الراحلة العشبي، إن فاطمة العشبي، ولدت للمرة الثانية، في 20 أغسطس/آب 1983، وهو اليوم الذي عادت فيه إلى اليمن ودخلت صنعاء وبجوارها ابنها يافعا وبينهما طفلتها نوف.
ويضيف أنها “خاضت ألف معركة وقصيدة انتصرت فيها جميعا… فقارعت بكلماتها السلطان الجائر في الأرض والحكم الفاسد والمجتمع الصامت”، كما أنها “دافعت بقوة عن حقوق المظلومين والمستضعفين من النساء والأطفال والعجزة والفقراء ونافحت بنفسها ومالها وحياتها في سبيلهم ونذرت لجهادها ورسالتها زهرة عمرها وبقيته”.
فاطمة الشاعرة
لم تكن التجربة الاجتماعية القاسية في حياة فاطمة العشبي عائقاً أمام موهبتها الشعرية الزاخرة، وعلى الضد من ذلك، فإن أجمل أعمالها الشعرية بنظر عبدالمجيد التركي، يتمثل في مجموعة “إنها فاطمة”، والتي تضمنت أجمل نصوصها وأصدقها ألماً، حيث “تحدثت عن الظلم الذي أحاط بها فانتصرت عليه، وعن مقاومتها للسرطان الذي أخبرها الأطباء أنها لن تعيش سوى أشهر معدودة بسببه، فقاومته وعاشت أربعة وعشرين عاماً، من دون أن تفارقها ابتسامتها العريضة التي صارت واحدة من ملامحها”.
من جانبه، يقول الشاعر والناقد عماد علي البريهي في نص نشر في كتاب التأبين إن الشعبي تعد “من شعراء اليمن القلائل اللائي وقفن بشجاعة وصلابة في مواجهة المجتمع وتقاليده الذكورية القاسية، فهي صوت الثورة في وجه القبيلة وأعرافها الجائرة، وقد غيبت في المجتمع اليمني الذي غيب غيرها من المبدعين”، كما أنها “شاعرة ذات حضور كبير في مختلف مجالات الحياة سياسيا وقوميا واجتماعيا وفكريا”.
صدر لفاطمة العشبي خمسة دواوين شعرية وهي “انها فاطمة”، “العزف على القيود”، “شعبيات عشبية”، “غداً نكون معا”، “قد نضحك يوما ما”، وقد كتبت في الشعر العامي والفصيح بشقيه الحر والعمودي، كما كتبت القصيدة الغنائية، ومن أجمل أبياتها الشعرية باللغة العامية:
قلبي وقع في الحب خمس مرات
مرة اتكسر.. ومرتين سلامات
والرابعة فيها دفعت خيرات
والخامسة جيت اسعفه وقد مات”
كتبت فاطمة بالعامية أيضاً، العديد من القصائد التي تجسد قصتها الاجتماعية في مواجهة التسلط الذكوري، وهي القصة التي تمثل قصص الكثير من اليمنيات اللواتي يحرمن من حقوقهن، وقد كتبت:
“تقولْ بنت اليمنْ لا تزعلو يا رجالْ / الشِّعرْ في معظمْ الحالات يِدّي زعلْ
قد اسمَكمْ تِدْعَوا اِن الحقّْ لا زمْ يُقالْ / والله ما قولْ إلا الحقّ مهما حَصَلْ..”.
كما تدون قصتها مع أسرتها بحرمها من الإرث، وتقول:
“قالوا اخوتي هيا اخرجي لا تِحلَمي يا شاطره / ميراثْ أبونا هو لنا، لا تِسْهَنِي حتَّى سَهَنْ
سيري اشتكينا للرئيسْ كلّ القضايا خاسره / في شرعنا ما بشْ مَرِه تُورَثْ أبوها لا ولنْ
ما بشْ معشْ غيرَ التعبْ من دايره لا دايره / لو ما يشيّب شعرْ راسش لاحقي لشْ بَعدْ مَنْ؟”
في شعرها ومسيرتها الأدبية، عُرفت فاطمة العشبي بمواقفها في مختلف القضايا إلى أن اختارت أن تغادر صنعاء في العام 2012، لتقضى سنوات حياتها الأخيرة بعيداً عن البلد الذي خاضت فيها معاركها لأجل الإنسان وانتصاراً للمرأة بوجه خاص.
درج