في اليمن.. عرائس مكرهات يقتلهن الصمت!
لم تكن هدى قد أطفأت بعد شمعتها التاسعة عشر، حين أجبرت على هجر أحلامها بأن تصبح طبيبة، والانتقال مُكر...
نهى صالح الوافي شابةٌ ريفية تبلغ من العمرِ (25 سنة)، عاشت في كنف أسرتها، وكان لها أحلامٌ وأمنيات كثيرة، لكنها تبددت بفعلِ الحرب التي عصفت بكل مناحي الحياة في محافظة تعز واليمن عمومًا.
كان لنهى نصيبٌ وافرٌ من تبعات الحرب التي سلبتها الحركة والإرادة. فمنذ اندلاع الحرب مطلع سنة ٢٠١٥، تشهد المناطق الغربية لمديرية جبل حبشي في محافظة تعز مواجهات عنيفة بين طرفي النزاع، لاسيما بلدة "وهر" الكائن فيها منزل نهى. "الحرب أخذت مني كل شيءٍ جميل"، بهذه الكلمات افتتحت نهى حديثها لـ"خيوط".
صباح الحادثة
في مطلع أبريل/ نيسان سنة 2018، ذات صباحٍ مختلف عن كلِّ الصباحات، بدأت نهى بإعداد الفطور لإخوانها الذين كانوا على عجالةٍ للذهابِ إلى المدرسة، تقول نهى: "بعد أن تناولوا الطعام وخرجوا من المنزل، سمعتُ إطلاق نار كثيف بالقرب من المنزل، تملكني الخوف عليهم، فحملتُ نفسي وخرجت مسرعةً أنادي عليهم بالعودة خشيةً من أن يصابوا بأذى، لكنهم كانوا قد ابتعدوا كثيرًا، وأثناء عودتي إلى المنزل، شعرت بضربةٍ قوية أقعدتني على الأرض، وإذ بالدم يملأ ملابسي، إثر رصاصة معدل (١٢/٧) كانت قد اخترقت كلتا رجليّ".
تقول نهى: "بقيت ساعتين مرميةً في الشارع وأنا أنزف بشدة، كنت أحاولُ أن أزحفَ، لكني لم أستطع لعمق إصابتي، وبعد هدوء الاشتباكات ومجيء إخواني، قاموا بحملي على الفراش إلى السيارة، وذهبوا بي إلى المستشفى".
تسرد نهى حكايتها: "شعرتُ حينها وكأنني دست على لغمٍ، كنت لا أشعر برجلي التي كانت ملتويةً إلى جانبي، بكيت بصوتٍ عالٍ من شدة الألم منادية والدتي، التي خرجت مهرولةً نحوي ومعها خالي، لكنهما لم يستطيعا سحبي. إذ كان القناص يستهدف كل من يقترب مني، لذلك بقيت ساعتين مرميةً في الشارع وأنا أنزف بشدة، كنت أحاولُ أن أزحفَ، لكني لم أستطع لعمق إصابتي، وبعد هدوء الاشتباكات ومجيء إخواني، قاموا بحملي على الفراش إلى السيارة وذهبوا بي إلى المستشفى، مستشفى "البريهي"، وصلنا إليه قرب الظهيرة وأنا في صراعٍ عنيف مع الموت، كنت قد فقدت الكثير من الدم، لبعد المدينة عن منطقتنا".
عامان من الألم
تسببت إصابة نهى بنقص عظام فخذها الأيمن بنسبة 5 سم مع تمزق في الشرايين، وضمور أعصاب رِجْلها اليسرى.
أجرت نهى 16 عملية جراحية بدعم من مركز الملك سلمان، أعادت النمو لرجلها اليمنى، استغرقت حوالي سنة ونصف، كانت خلالها طريحة الفراش، بلا حركة، أوردتها على حالها ممزقة، لا تضخ الدم الكافي إلى أطراف القدم، الأمر الذي أفقدها الإحساس والحركة.
فيما لا تزال الرِّجْل اليسرى تعاني من ضمور الأعصاب إلى الآن، وتُرجع نهى سبب ذلك إلى ما وصفته بـ"إهمال" الأطباء في المستشفى، وعدم إجرائهم عمليات جراحية لمعالجة الأعصاب المتمزقة في بداية الأمر، ما أدّى إلى تفاقم الإصابة. وتستدرك نهى حديثها لـ"خيوط" بنبرة حزينة، قائلةً: "عندما وصلتُ المستشفى قام الأطباء بإجراء عمليات جراحية للعظام ولشرايين رجلي اليمنى، وتركوا الرِجْل اليسرى دون أي تدخل؛ معللين ذلك بسبب خطورة إصابة الرجل اليمنى التي تستدعي علاجًا مكثفًا، على أن يتم علاج اليسرى لاحقًا، حال تحسن اليمنى".
وتتابع: "عانيتُ كثيرًا من إصابتي، إلى درجة أنني لم أكُن أتوقع أن أبقَى على قيد الحياة أو أن أستخدم رجليّ مرة ثانية، كان الأطباء يخوفوني ببترها، لكننا لم نوافق على البتر إطلاقًا، خصوصًا أن تركيب الرجل الصناعية لن يكون ممكنًا؛ لأن البتر تحدد فوق الركبة وتحت المفصل تمامًا، لكني لم أفقد الأمل وبقيت متمسكة به، هذا الأمل كان سببًا في تحسن حالتي نسبيًّا عما كنت عليه قبل عامين".
مضى عامان والثالث أوشك على الانتهاء، ونهى ما زالت حبيسة المنزل لا تستطيع التحرك أو السير، وممارسة حياتها بشكل طبيعي، حتى الكرسي المتحرك لا تستطيع استخدامه، بسبب بروز عظم المفصل نتيجة المسامير التي ثُبّتت على فخذها، حيث كان الأطباء قد قرروا لها عملية جراحية لاستبعاد المسامير، لكن قدرتها المادية لم تساعدها على إجرائها.
نزوحٌ وحرمان
تطورت المواجهات بين طرفي النزاع في المنطقة بعد إصابة نهى مباشرةً حتى شملت منزل الأسرة ما أجبرها على النزوح إلى منزل "صهرهم" في مديرية المظفر بالحصب.
استقرت نهى ونصف أسرتها في منزل صهرهم، الذي يشتغل عاملًا في إحدى ورشات تصليح السيارات، ويصرف عليهم. والنصف الآخر في منزل جدتها بمنطقة هجدة غربي تعز.
تقولُ نهى: "نزحنا من منزلنا ولم نستطع العودة إليه لوقوعه في خط المواجهات، حيث الاشتباكات هناك مستمرة حتى الآن، علاوةً أنه تم نهبه والسطو عليه، ولا نعلم من الفاعل".
إصابة نهى حرمتها من استكمال مرحلتها الإعدادية، كما أبعدتها عن أهلها، وأصبح توحدهم وعيشهم معًا حلمٌ يراودها كل يوم!
تتحدث نهى والألم يعتصر قلبها: "كنتُ قبل الحرب وقبل إصابتي أعيش مع أسرتي حياة طبيعية رغم مشقات حياة الريف وصعوبة العيش فيها، لكن تدمر كل شيء الآن، وأصبحت عائلتنا مشتتة".
ضحايا منسيّون
ضحايا الحرب لا يلتفت لهم أحد، السماء وحدها من تسمع أنينهم، تواصل نهى رواية قصتها: "أسرتي كافحت كثيرًا لدفع تكاليف علاجي، كنّا نتدبرها في الفترة الماضية، لكن بعد إصابة أختي في العمود الفقري، برصاصة قناصة، في منطقة الحصب أثناء اشتباكات بين أطراف النزاع، بعد سنة من إصابتي، تعقدت الأمور أكثر، فضلًا عن إصابة أبي بالجلطات وانتقاله إلى صنعاء لتلقي العلاج، وأكثر من ذلك توقف مركز الملك سلمان".
يقول الدكتور محمد فؤاد، رئيس اللجنة الطبية بالمحافظة، لـ"خيوط": "إنّ عدم قدرة اللجنة على معالجة الجرحى، وتسفيرهم للخارج، يقف خلفه انعدام الإمكانيات المالية، فمنذُ تشكيل اللجنة الطبية في 19 ديسمبر/ كانون الأول ٢٠١٩، لم تحصل على أي دعم حكومي، بالرغم أن رئيس الوزراء كان قد وجه بصرف مبلغ قدره 750 مليون ريال يمني لصالحها، لكن الدعم ما يزال محتجزًا في وزارة المالية، ولم نتمكن من الإفراج عنه رغم المناشدات". مشيرًا إلى أن اللجنة الطبية في الأساس هي عسكرية للجرحى المنتسبين لمحور تعز، ولكنها عملت على استقبال جرحى مدنيين بسبب أعدادهم الكبيرة، إذ استقبلت اللجنة حتى الآن حوالي 400 جريح.
وأوضح أن عمل اللجنة قائم على استقطاع مبلغ "ألف ريال يمنيّ" من مرتبات الجيش وموظفي تعز المدنيين، وقد أرسلت جرحى مدنيين إلى مصر من الذكور والإناث، وعادوا بعد أن استكملت اللجنة معالجتهم.
ووفقًا للتقرير الثامن للجنة الوطنية للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان، فقد بلغ إجمالي الجرحى المدنيين في اليمن (935) جريحًا، بينهم (113) امرأة.
توزعت المسؤولية على أطراف النزاع، حيثُ عدد (735) جريحًا تقع المسؤولية فيها على جماعة الحوثي، و(148) جريحًا على طيران التحالف العربي وقوات تابعة للحكومة، و(52) على أطراف أخرى.
وكان الأطباء قد قرروا لنهى (٣) عمليات جراحية، توزعت بين التخلص من العظام الزائدة في المفصل، وتحرير الشرايين والأوردة لرِجْلها اليمنى، وزراعة أعصاب لرِجْلها اليسرى.
تلك العمليات إجراؤها في اليمن غير ممكن واحتمال نجاعتها ضئيل جدًّا بحسب الأطباء، لكن نهى تقول إن سفرها للخارج غير ممكن؛ لعدم قدرتها على توفير التكاليف في ظل الظروف المادية الصعبة التي تعيشها، وتفاقم وضع أسرتها.
تتحدث نهى لـ"خيوط"، وهي تحاول أن تمسك دموعها التي ملأت جفنيها: "اشتقت جدًّا لممارسة حياتي الطبيعية، والعودة لاستكمال الدراسة، اشتقت للركض وراء الأغنام ومطاردتها وأنا أهزج بالمُلالات الشعبية. أحيانًا أظل أفكر كثيرًا؛ هل سأعود كما كنت في السابق، هل سأمشي مجددًا، هل سيكون الحظ حليفي أم خصمي؟!"، تنهي نهى حديثها.
خيوط