​​​​​​

دولة فاشلة في قبضة ارهاب وحشي

خليج عدن/ تقرير

اليمن دولة فاشلة بامتياز، وبصمة الحكومة تكاد تكون محسوسة، أما الحكام فلا يقدمون أي خلاص، لكن يوجد في البلاد إرهاب وحشي. لكنها تكاد تنفد منها المياه، والمتشددون وجدوا ملاذا لهم هناك، إنها أفغانستان بخط ساحلي. والرجال والنساء الذين خرجوا إلى الشوارع في صنعاء عام2011 كان هدفهم إعادة تأهيل بلادهم، وفي سبيل سياسة اكثر وقارا مما كانوا يحصلون عليه في ظل وجود هذا الرئيس في القمة لأكثر من ثلاثة عقود, لكن ما إذا كانوا سيحصلون على ما يطالبون به، فإن هذا الأمر لا يزال غير واضح، بحسب المحلل العربي الكبير فؤاد عجمي.

تردد صدى الهتاف الإيقاعي الشعب يريد إسقاط النظام طوال عام2011م، على امتداد الاراضي العربيه وتجاوز الحدود بيسر ونقلته الصحف والمجلات ومواقع تويتر وفيسبوك وموجات الأثير على تلفزيون الجزيرة والعربية، وقد شطبت القومية العربية من الوجود، لكن كان هناك تفتح كامل ما بدا بجلاء أنه يمثل يقظة عربية، شبان يبحثون عن حرية سياسية وفرص اقتصادية، ضجرين من الاستيقاظ على الملل نفسه يوما بعد يوم، وقد انتفضوا ضد أسيادهم المتشددين.

وقيل نقلا عن العرب إن الرئيس الأميركي السابق جورج بوش أطلق موجة تسونامي في المنطقة، وهذا أمر صحيح، لكن العرب أجادوا الانتظار حتى نهاية العاصفة. ولم تمض فترة طويلة حتى خسر الأميركيون الشجاعة وتخلوا عن مسعاهم. وانتخابات عام 2006 في الأراضي الفلسطينية ذهبت باتجاه حماس وألحقت خيبة أمل جديدة بإدارة بوش في حكم الديمقراطية.

كانت خطة زيادة القوات الأميركية في العراق قد أنقذت الحرب الأميركية في الوقت المناسب تماما، لكن الرؤية الطموحة بإصلاح العالم العربي تم التخلي عنها. ونجت الأنظمة الفردية من لحظة الحزم الأميركي، وسرعان ما جاء حامل علم جديد للقوة الأميركية متمثل بالرئيس الأميركي باراك أوباما ومعه رسالة تطمين، مفادها ان أميركا قد انتهت من التغيير وسوف تهادن الوضع الراهن، وتجدد شراكتها مع أصدقائها من الحكام الاستبداديين. وستبقى أميركا في شرك كابول لفترة أطول، لكن الشرق الأوسط الكبير سوف يترك تحت رحمة الانتقام.

ان المراقبين لميزان القوى في المنطقة في أواخر 2010 كانوا أذكياء في الرهان على إدامة نظام حكم الفرد المطلق. لكن ما وراء الاستقرار كان هناك عقم سياسي. لم يكن العرب بحاجة إلى تقرير حول التنمية البشرية ليخبرهم عن بؤسهم. وجرى استنزاف حالة القبول من الحياة العامة، وبقي الشك والخوف الغراء الوحيد بين الحاكم والمحكومين. لم يكن هناك مشروع عام لتوريثه إلى الجيل المقبل، الذي يشكل النسبة السكانية الأكبر والأكثر شبابا على الإطلاق.

ثم حدث الأمر في ديسمبر 2010 عندما سلك بائع خضار تونسي يائس يدعى محمد بو العزيزي طريقه بإشعال النار بنفسه احتجاجا على الظلم القائم، وسرعان ما سلك الملايين من زملائه غير المعروفين بالاسم طريقهم بالتدفق إلى الشوارع.

وفجأة، كان المستبدون الذين بدوا آمنين في سلطاتهم ظاهريا، في حالة فرار. ومن جهتها، سارعت أميركا للحاق بركب الانتفاضة. وقالت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون مع هبوب العاصفة في منتصف يناير 2011 ، ان أسس المنطقة كانت تغرق في الرمال في مواقع عدة وبطرق عديدة، والمشهد العربي قدم لملاحظاتها البرهان المسهب، وما تم حذفه من كلامها هو ان أجيال من الدبلوماسية الأميركية سيجري طمرها أيضا.

 

النيران المندلعة

كانت الانتفاضة تسوية حسابات بين القوى القائمة والسكان العازمين على الخلاص من الطغاة، واندلعت في بلد صغير على هامش التجربة السياسية العربية، وفي بلد أكثر علما وازدهارا وارتباطا بأوروبا من العادة. وما أن انتقلت الانتفاضة شرقا، حتى تجاوزت ليبيا ووصلت إلى القاهرة، أم الدنيا. وهناك وجدت مسرحا جديرا بطموحاتها.

وغالبا ما كانت مصر تتعرض للشطب والتهميش باعتبارها أرض الإذعان السياسي بامتياز، لكنها في الواقع عرفت ثورات شرسة. وكان من حسن طالع الرئيس المصري حسني مبارك ان هذه الأرض تحملته لثلاثة عقود. وكان مبارك الخلف المعين للرئيس المصري الأسبق أنور السادات، رجلا حذرا لكن حكمه نمىّ طموحات في إيجاد سلالة حاكمة. وعلى مدى 18 يوما عجائبيا في يناير وفبراير 2011، اجتمع المصريون من كل مسارب الحياة سويا في ميدان التحرير مطالبين بالتخلص منه، وقام كبار قادة الجيش المصري بتنحيته فالتحق بمصاف الطغاة زملائه من أمثال التونسي زين العابدين بن علي الذي كان قد سقط قبله بشهر واحد.

من القاهرة، تحولت اليقظة إلى قضية قومية عربية، حيث انتقل لهيبها إلى اليمن التي تعد الدولة الأفقر بين مجموع الدول العربية، وتمتاز بحركات انفصالية مستعرة في شمالها وجنوبها وبرئيس يفتقر إلى مهارات الحكم باستثناء فن البقاء على الساحة السياسية وهو علي عبدالله صالح، وكانت الخلافات في اليمن غامضة، كذلك العداء بين القبائل وأمراء الحرب، والاضطراب العربي الأوسع أعطى اليمنيين التواقين للتخلص من حاكمهم الشجاعة للوقوف في وجهه.

ثم، ارتدت الثورة عائدة إلى ليبيا. وكانت ليبيا مملكة الصمت، وعالم الحاكم المختل الذي نصب نفسه عميد الحكام العرب معمر القذافي. وعلى مدى أربعة عقود من التعذيب، كان الليبيون تحت رحمة مدير السجن الطاغية أحيانا والمهرج أحيانا أخرى.

والقذافي نهش بلاده التي تعد الأغنى في إفريقيا، ذات السكان الفقراء بشكل مدقع. في السنوات بين الحربين العالميتين، عرفت ليبيا حكما استعماريا وحشيا على يد الإيطاليين، وتنفست الصعداء قليلا في ظل الحاكم الزاهد الملك إدريس السنوسي، لكن في أواخر الستينات من القرن الماضي وقعت في قبضة الحمية الثورية. إبليس ولا إدريس ذهب القول المأثور لذاك الزمان وقد حصلت البلاد على ما تريده. واستمر النفط في الجنون، والقادة الأوروبيون والمثقفون الأميركيون جاؤوا ليداهنوا قادة البلاد، لكن في عام 2011، انتفضت بنغازي وأعطى التاريخ الليبيين فرصتهم.

قال القادة المصريون إن بلادهم ليست تونس وقال القذافي ان جمهوريته ليست تونس أو مصر.

 

إلى أين؟

لم يكن هناك طبعا سيناريو موحد مكتوب للأنظمة العربية، تونس الدولة العريقة ذات الهوية الوطنية المحددة سوت أوضاعها بسهولة نسبيا، وانتخبت جمعية تأسيسية حيث حركة النهضة الإسلامية أمنت الأغلبية النسبية، وزعيمها راشد الغنوشي كان رجلا فطنا، فقد علمته سنوات المنفى الاحتراس، وقد شكل حزبه حكومة تحالف مع شريكين علمانيين.

وفي ليبيا، ساعد التدخل الخارجي الثوار في إسقاط النظام، وتم جر القذافي من أنبوب للصرف الصحي وضرب وقتل، كذلك حصل مع احد أبنائه. وهذه الأحقاد كان قد زرعها الحاكم نفسه، ولقد جنى ما صنعته يداه. ويفترض بالثروة وتعداد السكان المنخفض الكثافة والاهتمام الخارجي أن تشكل دعما حتى تنجز البلاد مهمتها، فلا يوجد تاريخ في طور التشكل يمكن ان يكون قاتلا لليبيين وغيرهم كما كانت سنوات القذافي.

أما بالنسبة لليمن، فإنها دولة فاشلة بامتياز، وبصمة الحكومة تكاد تكون محسوسة، أما الحكام فلا يقدمون أي خلاص، لكن لا يوجد في البلاد إرهاب وحشي. لكنها تكاد تنفد منها المياه، والمتشددون وجدوا ملاذا لهم هناك، إنها أفغانستان بخط ساحلي. والرجال والنساء الذين خرجوا إلى الشوارع في صنعاء عام 2011 كان هدفهم إعادة تأهيل بلادهم، وفي سبيل سياسة اكثر وقارا مما كانوا يحصلون عليه في ظل وجود هذا الرئيس في القمة لأكثر من ثلاثة عقود, لكن ما إذا كانوا سيحصلون على ما يطالبون به، فإن هذا الأمر لا يزال غير واضح.

وقد تكون مصر فقدت بريقها القديم في هذه الأثناء، لكن هذه الأزمنة العربية سيحكم عليها بما يحصل هناك في نهاية المطاف. وفي سيناريوهات كارثية، فان الثورة ستفرخ جمهورية إسلامية، والإيرادات السياحية سوف تضيع إلى الأبد ويحن المصريون إلى القبضة الحديدية للفراعنة.

ويبدو الأداء القوي لجماعة الإخوان المسلمين والحزب السلفي الأكثر تشددا في الانتخابات البرلمانية أخيرا، إلى جانب تشظي الصوت العلماني الليبرالي، أن هناك ما يبرر القلق حيال التوجه السياسي للبلاد، لكن لدى المصريين ذكريات تدعو للفخر تخص فترات ليبرالية في تاريخهم، وستة عقود من الحكم العسكري سرق منهم تجربة الانفتاح السياسي، لكنهم على الأرجح لن يتخلوا عنها الآن من دون معركة.

وكانت الانتخابات شفافة وإيضاحية، فالقوى اللبرالية والعلمانية لم تكن مستعدة للمنافسة في حين كانت جماعة الإخوان المسلمين تنتظر تلك اللحظة التاريخية لعقود واغتنمت فرصتها، وما ان خرج السلفيون من السراديب حتى بدؤوا في إحداث إرباك بين السكان، لذا تراجعوا عن مواقفهم المتشددة إلى حد ما.

 

اليقظة الثالثة

وهذا الاضطراب وهذه اليقظة هي الثالثة من نوعها في التاريخ العربي الحديث، الأولى كانت النهضة السياسية الثقافية النابعة من الرغبة في اللحاق بالعالم الحديث، وقد جاءت في أواخر القرن التاسع عشر، وكانت بقيادة كتبة ومحامين وبرلمانيين ومثقفين مسيحيين، وسعت إلى إصلاح الحياة السياسية وفصل الدين عن السياسة وانعتاق المرأة وتجاوز أطلال الإمبراطورية العثمانية.

وهذه الحركة العظيمة التي كانت بيروت والقاهرة على رأسها، وجدت بشكل ملائم مؤرخ أحداثها في شخصية الكاتب المسيحي جورج أنطونيوس، الذي ولد في لبنان، وعاش وترعرع في الإسكندرية، وتلقى تعليمه في كمبريدج، وخدم في الإدارة البريطانية في فلسطين. ويبقى كتابه الصادر عام 1938، اليقظة العربية بيانا أساسيا في القومية العربية.

واليقظة الثانية جاءت في خمسينات القرن الماضي واستجمعت قواها في العقد الذي تلاه. وكانت هذه حقبة الرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر في مصر وحبيب بورقيبة في تونس والقادة الأوائل لحزب البعث في العراق وسوريا. لم يكونوا ديمقراطيين، لكن قادة ذاك الزمان كانوا رجال سياسة بقوة منشغلين في القضايا الكبرى لذاك الزمن. أتوا من أوساط الطبقات الوسطى وحتى الطبقات الدنيا .

وكانت لديهم أحلام في السلطة وإنجاز التصنيع وتخليص شعبهم من الإحساس بالدونية الذي زرعته الفترة العثمانية ومن ثم الحكم الاستعماري. ولا يوجد مراجعة بسيطة يمكنها ان تحقق العدالة لأولئك الرجال، وكانت لديهم إنجازات هائلة، لكن انفجارا ديمغرافيا إلى جانب ميولهم الاستبدادية وعيوبهم أزال كل أعمالهم. وعندما تعثروا، فان الدولة البوليسية والإسلام السياسي ملأ الفراغ.

وجاءت اليقظة الثالثة في الوقت المناسب. العالم العربي اصبح كئيبا ، وسكانه يكرهون قادتهم والرعاة الأجانب لهؤلاء القادة، ومجموعات متشددة تشكلت في السجون الوحشية للأنظمة الرهيبة، كانت تنتشر في كل مكان تنظر من تقتله أو تقتل على يده.