​​​​​​

عدن قبل مئة عام

خليج عدن/ بلال غانم
مسافات من الأزمنة تحمل إلينا صورا من الحياة العدنية، تلك الأيام وأهلها وما تركت من كلمات هي الذكرى الباقية من أحاديث الأمس. عدن وأشياء من الماضي الذي مازال يعود إلينا كلما تصفحنا تلك الأوراق من الذاكرة العدنية، ماض مازالت أطيافه تترحل بين كلمة وحكاية، وبين عاطفة ووجدان، وأفق يطل علينا من خلف غيوم الحنين, يستعيد بهجة الزمن الجميل، عدن مدينة الحلم، تتنهد فيها الأشواق في همس أمواج شواطئها، وكم يطول الانتظار فيك يا عدن، وهذه بعض من مشاهد الحياة العدنية التي اخترتها لكم.
يذكر شيخ الصحفيين العدنيين ورئيس تحرير مجلة (المعلم العدني) الأستاذ أحمد محمد عبدالله آل يعقوب عن الحياة في عدن قبل أكثر من مائة عام قائلاً: "كان السكان العدنيون قليلون, ولذلك كانت المعيشة رخيصة ساذجة, فقد كان الشخص المتزوج صاحب ولدين يصرف في يومه روبية ونصف فقط لثلاث وجبات. أما الملابس فقد كانت 12 روبية تكفي لملبس الرجل و 8 روبيات تكفي لملبس المرأة إذا أرادا التأنق والبرجزة, وكانت الأقمشة والمواد الغذائية ترد بكثرة وافرة إلى عدن في تلك الفترة.
وكان التضامن شديداً بين جميع الأهالي, فلو وقع موت في بيت أحدهم وجد جميع الأهل والجيران والأصحاب في منزل الفقيد يواسون أهله ويكرمونهم أن كانوا فقراء. وكانوا يجتمعون خارج منازلهم إلى الساعة العاشرة مساءً. وإذا أقام أحدهم فرحاً اجتمعوا معه يجهزون له (المخدرة) ويقدمون له المساعدات, كما كانوا يخرجون في جماعات إلى بساتين الشيخ عثمان للمقيل في أيام الآحاد ويلبسون الملابس المزركشة الملونة كالسباعي والمزندة البلدي والمشدة القصب ويقضون نهارهم تحت الأشجار.
لم تكن توجد سيارات في ذلك الزمان بل كانت هناك عربات الخيل فإذا أراد أحدهم أن يذهب إلى عمله في المعلا أو التواهي أو الشيخ عثمان يركب عربة تسع لأربعة أشخاص بأجرة تتراوح بين ست عانات وروبية وربع للشخص الواحد ولهذا السبب كان أغلب الناس يذهبون سيراً على الأقدام. وقد وصلت أول سيارة إلى عدن عام 1912م, وكانت آية من آيات ذلك الوقت كان البعض يركبونها بينما الآخرون يتخوفون من الركوب عليها, وترى الناس يجتمعون حولها يتفرجون ويراقبونها حين تتحرك.
كانت هذه السيارة موديل (فورد كليش) وكان لزاماً على سائقها أن يحمل معه صفيحة من الماء لأنه يملأها بالماء كلما قطعت ميلين أثنين. حيث أن ماء الشرب كان يصل إلى عدن من بلدة الشيخ عثمان بواسطة جواري الجمال, والبئر المشهور فيها أنذاك كان بئر الدوابية, ويُباع في (هندات) الهندة أربعة جالونات ببيسة ونصف.
كانت المساكن في تلك الفترة بسيطة وإيجارها زهيداً, فإيجار بيت يتألف من غرفة ومخزن ودارة ثلاث روبيات, وإذا كان من طابقين ست روبيات. أما حق المفتاح فقد كان روبية واحدة فإذا غلا سعره بلغ روبيتين فقط.
وكانت جميع المؤن من بن وجلود وصفائح سمن وغاز الاستصباح والقماش وغيرها تنقل على عربات جمال وعربات أخرى يجرها ثوران. وكانت الأسعار في عدن زهيدة جداً, فقد كانت (التنكة السمن) بـ 16 روبية والسليط الحالي بعانتين, وسعر السكر الفراسلة بروبية وعانتين, والرطل الدقيق ببيستين.
أما التعليم فقد كان بسيطاً جداً والموفق من الطلبة يستطيع أن يدرس إلى الصف الثالث ليحصل على منصب كاتب بأجرة قدرها ثلاثون روبية في البلدية أو غيره من حفيسات الحكومة, وهذا بعد أن يبقى تحت التمرين سنتين على الأقل, وكان التعليم محصوراً في الرجال.
أما عن وصف البيوت العدنية فقد ذكر حجة التاريخ العدني الأستاذ حمزة لقمان قائلا: "أن البيت العدني غالباً ما يتألف من طابق واحد وطابقين وطبقات ثلاث, ويسكن ذات الطبقة الواحدة الفقراء والعمال. ويحتوي الواحد منها على غرفة واحدة تُسمى (المنظرة) أو (المخزن) ويحتوي البيت كذلك على مطبخ ومرحاض وفناء, ويُسمى هذا النوع من البيوت بالبيت (القاعي).
وفي وصفه للبيت القاعي يقول المؤرخ حمزة لقمان: "يتألف البيت القاعي عادة من غرفة تحتوي على سرر للنوم وناموسية, وهذه تجدها في كل بيت عدني أكان صاحب البيت فقيراً أم غنياً. ولا ينام على هذه الناموسية أحد, لأنها تكون مفروشة ونظيفة لا يجلس عليها إلا الزائرات اللاتي يُسمين (المواتيات), ولهذا السبب تتعمر الناموسيات في عدن. ويجد في الغرفة بعض الكراسي القصيرة (المحبلة) التي تشد بالحبال لتكون مقعداً يجلس عليها عادة الزائرات من العجائز اللاتي لا يستطعن أن يرفعن أنفسهن للجلوس على الناموسيات.
ولا تخلو جدران هذه البيوت من الصور الكثيرة المعلقة فيها من قصاصات الجرائد أو صوراً تذكارية, ولابد من وجود الأكواب والفناجين والصحون على رفوف النوافذ والأبواب وهذه تُسمى (التشريعة). وإذا كان لرب البيت كثير من الأطفال فلابد عند ذاك من وجود سرر صغيرة (قعايد) تحت السرر الكبيرة لنومهم, وربما نام في تلك الغرفة عدد قد يبلغ 12 نفساً وربما أكثر. أما إذا كان الوقت صيفاً فأنهم يخرجون سرر الذكور إلى الشارع حتى يخف الضغط وليحصلوا على الهواء النقي. ولأكثر البيوت العدنية وخاصة القاعي توجد ستارة يقيها أنظار الناس في الشوارع عندما تكون الأبواب المفتوحة, وكثير من هذه الستائر عادةً لا تتغير.
أما عن الصناعات المنزلية التي كانت تقوم بها بعض النساء العدنيات في بيوتهن لكسب معيشتهن وإعالة أطفالهن ومن يلوذ بهن أو مساعدة رجالهن في كسب الرزق, أو اللاتي فقدن أزواجهن ويضطرهن الفقر إلى مساعدة رجالهن, وهي أعمال وإن تكن بسيطة ولا تدر عليهم إلا ربحاً بسيطاً إلا أنها شريفة تدل على ترفع المرأة العدنية وعدم رضاها بأن تعيش عالة على غيرها ومن هذه الأعمال:
الخياطة والتطريز و (النسالة) وعمل مناديل الرأس المطرزة الموشاة والكوافي وغيرها من الأعمال التي تمت إلى الخياطة بصلة. ويقوم بعضهن بطبخ أنواع المأكولات لبيعها في الأسواق والتي تجد إقبالاً من الناس, وهذه الأنواع هي:
الباجية والسمبوسة والمُعبل والخمير الحالي (المُقصقص) والمُطبق والجبيز والزعقة واللحوح والكعك والفوفل الملبس وغيرها. ويقوم بعضهن بصناعة الحبال والمسارف والمكانس ومراوح اليد وسجاد الصلاة وهذه جميعاً تُصنع من سعف النخل الذي يُجلب من البلاد المجاورة التي يكثر فيها النخيل.
ومن الأعمال الأخرى التي كانت تقوم بها النساء ويشاركن فيها الرجال هي: الدلالة (السمسرة) وكثيرات منهن يقمن بأعمال التجارة فيبعن الأقمشة والبخور والتواليت والعطر والصابون وكل ما يمت إلى التجميل وإلى النساء بصلة, ولبعضهن دلالات يساعدنهن في القيام بزيارات البيوت وعرض بضائعهن النسوية.
أما عن الطباخة في البيوت العدنية فوصفها المؤرخ حمزة لقمان قائلاً: "أن أصناف الطعام التي تؤكل في البيوت العدنية كل يوم تقريباً فهي: الفول والروتي والخبز الطاوه والشاهي الملبن للإفطار, والرز والصانونة والمرق والبسباس للغذاء, والفول والفاصوليا والروتي مرة أخرى للعشاء. والبسباس هو حبيب كل امرأة عدنية ولهن فيه غرام عجيب فتكيل البسباس كيلاً في جميع أنواع الطعام.
يدور الزمان دورته وتبقى عدن وبساطة أهلها لا تتغير ويبقى الحنين للماضي الجميل وجعاً يسكننا, ومابين الاشتياق والحنين دمعة تأخذنا إلى ذاك الزمن الذي مضى...