أن تحتشد يعني أن تكون حرًا

لكل طقوسه.

يبدأ الآن طقس الشوط الثاني من القات. الساعة تشير إلى 2353.

المشكلة أن عديد زملاء وزميلات من طلابنا في قسم الإعلام رأوني اليوم وبيدي علاقي قات في ساحة الحرية (ساحة العروض). كنت أود إخفاءه في الحقيبة لكن خشيت عليه من التلف, ووددت إخفاءه على الأقل من باب إذا بليتم فاستتروا, ولم أفلح. والقات بلوى على كل حال, وقلت للكائن الجميل محمد بعد كيت وكيت: قريبًا ربما استطعتُ التحرر منه, وعدتُ إلى ما كنتُ عليه.

كنتُ مع الرفيق عبدالمولى, ورأيتُ فاطمة وهاني ورؤى وصالح وآخرين. ظللت أحتفي بصاحبي كلما وجدتُ أحدًا لا يخزّن: هذا صاحبي عبدالمولى لديه عديد مزارع قات لكنه لا يخزّن. مررنا بالثانوية والجامعة في قطيعة مع القات, ثم لما بدأت العمل في الصحافة مباشرةً خالفتُ الاتفاق وعرفتُ الطريق إلى سوق القات, كما عرف الرئيس هادي الطريق إلى الرئاسة مجبرًا (وتراه الآن زاهدًا فيها ويريد التخلي عنها اليوم قبل بكرة).

***

أقبلنا على الساحة من مدخلها الشرقي, وطفنا طواف القدوم. وفي الوسط قرب المنصة, رأينا علم جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية طويلًا جدًا كان محمولًا على الرؤوس, وقبالة المنصة التقيت الدكتور محمد علي ناصر –أستاذ الإعلام المشارك- ودار حديث وتوقعات وأمل.

اكتظت المنصة بعديد صور لموميات من الزمن القديم (والموميات من قبيل رؤساء سابقين وسياسيين معتّقين لا يُفترض بأي حال من الأحوال رفع صورة أي منهم مهما كان), وصور لشهداء رووا بدمائهم الزكية أرض الجنوب فداءً لقضية عادلة.

الواجب كان رفع صور الشهداء فقط, ومعهم علم جمهورية اليمن الديمقراطية, وهو علم لو تعلمون عظيم.

أقترح في الدولة الفيدرالية القادمة (بعد أن يكون الجنوب إقليمًا واحدًا) أن يظل علم النجمة الحمراء هو علم الإقليم الجنوبي في اتحاد الأقاليم.

أليس كذلك؟ (على كل سأستشير الرفيقين حمادي وعبادي في هذه المسألة المهمة)..

***

في الطريق إلى الساحة كنا خمسة من الكائنات الشقية: آدم, أنيس, جمال, ونسيتُ اسم الكائن الخامس, على أن عبدالمولى ليس صحافيًا وهو سادسنا (لا يعمل صحافيًا في بيئة مثل اليمن –كما اتفق علماء النفس والاجتماع- إلا من كان شقيًا يشق الطريق الممهدة مباشرة إلى الجنون ولله الحمد من قبل ومن بعد, ومن ساير الصحافيين يلزمه تفقّد الفيوز مرتين باليوم).. كنا على متن سيارة أقلتنا من مدينة إنماء إلى محجّتنا الأثيرة. مررنا طريقًا طويلًا, انعطفنا يسارًا نحو العريش, ومن هناك انعطاف آخر خلف الصولبان.

كان لدينا في السيارة كائن أكثرنا شقاءً؛ مشكلته أنه يبطن الإيمان ويظهر الكفر, وهو ما قد يتسبب بكارثة بيئية, وبت أخشى من ذلك كثيرًا.

وتشعبت الأحاديث, وكانت رفقة هذه الرحلة الممتعة تلك الطرائف والمعارف وإلى جانبهما الآمال والطموحات.

هل من الممكن أن نتخلى عن الأمل والطموح؟

وصدحت الكائنة الجميلة بوسي "آه يا دنيا" وزادت في المتعة متعتين.

***

اتصل بي عديدون:

- أين أنت أيها الرفيق؟

- نحن ذاهبون إلى استعادة الدولة.

- ........؟

- لا بد أن يحدث ذلك, وإذا لم ننجح اليوم, سينجح الأبناء والأحفاد غدًا.

- وماذا بعد الانفصال أو فك الارتباط؟

- برضو لا بد من استعادة الدولة.

***

احتشدنا حشودًا كبيرة, ولا بد أن نحتشد, ودائمًا لا بد لنا أن نكرس ثقافة الاحتشاد.

أن تحتشد يعني أن تكون حرًا.

لا تشعر بالحرية إلا حين تحشد وتحتشد معًا, وترى الجمع المبارك والحشود الحاشدة.

والاحتشاد ممارسة ديموقراطية,

كما أن الاحتشاد عادةً ضد الاستبداد والديكتاتورية.

ولذا من كانت لديه ميول لأن يستبد بنا أو يسعى إلى الديكتاتورية مجددًا فيسعى –كنوع من التمويه وخداع العالم- إلى حشد مضاد, فيسكون لنا معه:

ألا لا يشحدن أحد علينا فنحشد فوق حشد الحاشدينا

***

وبعد طوافنا طواف الوداع لليوم الأول من الفعالية المستمرة ليومين انعطفنا ناحية اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين. مكثنا قليلًا وقفلنا.

وكانت الخلاصة: الشعب ظل يقدم ما لديه, ولا يزال, ولكن ذلك لا يكفي. لا بد للشعب من قيادة, وعلى القيادة في الأساس أن تمتلك ركائز ومقومات القيادة, وبدون ذلك يتحول الشعب –يا للأسف- إلى قطيع يسهل التلاعب به وتخديره, والالتفاف على مطالبه, والخسارة الفادحة إذا حدث مثل ذلك أن الكلفة الباهظة والغالية الثمن تكون قد ذهبت هدرًا وبدم بارد.

يا للمصيبة,

أيمكن أن تحدث فاجعة كهذه؟

ولذا يجب ردم هذه الفجوة.

هناك صراع على القيادة بين مجموعة من المحنطين. هنا بالذات الخلل الفظيع.

من تقاعد فقد تحنط, ومن تحنط فقد تكرفس, ومن تكرفس فَقَدَ في الأساس القدرة على تقديم شيء يفيد.

المسألة هنا لا تتعلق بالريال والبرشة. المسألة هنا تتعلق بمستقبل ملايين.

***

سأعود مجددًا إلى رواية المراهق. فيودور دوستويفسكي يعطي دفعةَ قوية للجنون كي يتجدد, وذلك ما نحتاجه في ظرف كهذا,

ولا بارك الله بيوم يمر هباءً دون الانخراط في تهمة المعرفة.

***

ماذا بعد؟

لا أدري ما الذي كتبتُ أعلاه على وجه الدقة. لن أراجعه؛ لقد كتبتُه وانتهى الأمر, وإنني متمسك به ولا مناص.

كما لم يعد في البال ما يمكن إضافته الآن.

في بعض الأحيان يتجه أحدنا إلى العبث وهو يعلم أنه يعبث..

هل كنتُ أعبث هنا؟

***

تذكرتُ: طالبت من ساحة الحرية بترئيس اللواء شلال. قلت في نفسي: إذا لم يكن الرئيس القادم شلال فمن عساه يكون؟

لكن حمادي أرسل إليّ الرسالة النصية التالية:

عزيزي نشوان, أنت رب إبلك وللمعاشيق رب يحميه.

***

وحتمًا سننتصر



ADEN – 17-18 APRIL 2016

مقالات الكاتب