عدن كونية يا هؤلاء

قلت ذات مرة واكررها أن عدن مثل بحرها المفتوح على الدنيا لا يعترف بالجغرافيا المغلقة، وحتى أحرفها الثلاثة ( العين والدال والنون) جميعها أحرف مفتوحة الشكل والتهجي، فكيف يريد البعض إخراجها عن طورها بدعوات منغلقة مناطقية وسياسية.

هذه البقعة من الأرض رئتيها تتنفس تيارات الدنيا، موقعها الاستراتيجي من العالم يجعلها كونية تتحدث بلغة إقليمية ودولية لا حدود لها، فكيف يسمح البعض من الحمقى خنق صوتها إلى مجرد الحديث القاصر عن القروية والجهوية.

وحتى عينيها مفتوحتين على الأحداث ويجب أن يكون لها رأي وصوت مسموع طالما تقف على المضيق البحري الثاني في العالم، وبالتالي فإن خطاب (لا يعنيننا) ليس عدنيا ابدا وهو شاذ إذا صدر من هذه المدينة وسياسيها ومفكريها ومثقفيها.

علينا أن نتساءل قبل أي حماقات نمارسها على شوارع المدينة ،ما هوية حيتانها وأسماكها التي تتجمع في مياه عدن الإقليمية؟!، بلا شك هو تساؤل أبله لأن عالم البحار لا يقبل هذه القيود والتصنيفات التي تصنعها عقول البشر المتعصبة.

هنا في عدن عاش الثوار ورواد التغيير وانطلقوا شمالا وشرقا وغربا، هنا تعايشت الأديان والقباب والصلبان، تجاورت الأجناس من أمم الأرض وانصهروا جميعا في بيئتها النقية، تعايش الساحل والجبل، التاريخ والحاضر، في عدن فقط حيث لا يسألك أحد من أي منطقة أو قبيلة أنت.

من يأتي من الجبال والوديان والقفار البعيدة ليفرض خلفيته الثقافية المتطرفة هنا في عدن هو يسيء لها أيما إساءة، عليه أن يتطهر أولا سبع مرات من أدران القروية في بحرها (الطهور ماؤه الحل ميتته) كي تتفتح مياسم الجسد ويتحرر تفكيره ويعي اختلاف المكان والزمان ، حيث عدن والعنف لا يلتقيان، كما أنها والتطرف لا يجتمعان.

هنا سكن العمالقة والصليحيون والهنود والصومال ، الأتراك والإنجليز، الروس وكل أمم الأرض، جميعهم توقفوا دهورا ثم مروا كالكلمات العابرة ،وتجددت الحياة فيها مثل أمواجها المتدفقة على مدى العصور، وبقيت عدن وستبقى إلى أن تنتهي الخليقة.

عليك وانت تقف في بيئة عدن بينما تحضر لنضال أو كفاح أو نشاط سياسي أو فكري من أي نوع أن تتجاوز خطوط الطول والعرض فكلما اتسع نطاق نضالك كان النجاح أوفر، وكلما ضاق مداه وحدوده كان الفشل هو سبيلك، بهذا حكى التاريخ ونطقت كتبه.

فلقد تعمر الأتراك وساد الإنجليز قرن ونصف من الزمان لأن الطموح كان يتجاوز عدن وآسيا وأوروبا ونجح نظام جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية لأنه كان يؤمن بالأممية ويتناغم مع الساحة الحمراء في وسط موسكو ونيكاراجوا وكوبا في ألأمريكيتين.

هي باختصار حاضنة تحولات كبرى ومن يقزم دورها في مشاريع صغيرة يعبث بالزمن ويلعب بالجهد ولا يحسن تقدير الأمور واسألوا إن اردتم عن هذه الحقيقتين : مشروع الثائر الزبيري الذي تمدد، ونقيضه مشروع الجنوب العربي الذي تجمد ولم يعش سوى أربع سنوات بين (1959- 1963م).

أنا هنا لا احاكم فصيلا سياسيا بعينه، ولا اهاجم تيارا فكريا محددا، أنا اقرأ من التاريخ ليس إلا وكل غرضي أن نختصر المسافات ونوفر الجهد ونتعايش بتعدد اتجاهاتنا، وانتماءاتنا وأهدافنا في الحياة، نعيش كأحرار نمارس ما نريد في حدود حرية كل فرد وكيان منا ( وتنتهي حريتك حيث تبدأ حرية الآخرين) ، فلقد اثبت التاريخ القريب والبعيد أن الإلغاء لم ينجح، والإقصاء لا يستمر، والاستحواذ لن يدوم.

 

 

مقالات الكاتب