مقدمة عامة في الديمقراطية التوافقية

310

• تؤكد عدد من التجارب بأن هناك اهتمام غير مسبوق بمفهوم وتجربة الديمقراطية التوافقية. هذا وقد نشأت أولى مساعي بناء التوافق في بلدان أوروبية غربية، منها بلجيكا وهولندا وسويسرا والنمسا وكندا. وتجدر الإشارة أن مثل هذه المساعي لم تصدر عن أي نظرية مسبقة، بل كانت وليدة حاجات عملية في مجتمعات منقسمة، أو غير

متجانسة من الناحية القومية. أي أنها ليست أمة متناغمة، على قاعدة أن الأمم تتعين حدودها بمعيار الثقافة المتجانسة (اللغة، الدين، العرق، والتاريخ، الخ).

• وجاءت نظرية التوافقية، بعد التجربة وليس قبلها. واكتسبت هذه النظرية شكلها الملموس على يد مفكرين سياسيين بارزين منهم (Arend Lijphart) أرنت ليبهارت. وللعلم فإن أرنت ليبهارت هو كاتب لبحث عميق Democracy in Plural Societies " الديمقراطية التوافقية في مجتمع متعدد" قام بترجمته " معهد الدراسات الإستراتيجية"، في بغداد – بيروت، ونشرت طبعته الأولى عام 2006م، وقام بترجمته حسني زينه.

• ويطرح المعهد أعلاه في مقدمته للكتاب سؤالاً: "ما لفرق بين الديمقراطية والديمقراطية التوافقية ؟ ولماذا هذه الصفة الإضافية إلى الحامل الأصلي ؟ (ص 6).

• وتشير مقدمة المعهد أعلاه : "تقوم فكرة الديمقراطية، سواء في سياق تحققها التاريخي، أو في الخُلاصات الفكرية لها، على المبادئ التي حددها جون لوك ومنتسيكيو: نعني الحكم بالرضى (عبر الانتخابات) وتقسيم السلطات. ثمة ملاحق لهذا النظام منها حقوق الإنسان، والحقوق المدنية للفرد، حقوق المرأة، والقانون الدولي .. الخ. ولقد أصطلح على نظرية لوك – مونتسكيو بمفهوم "الحكم الأغلبي". ويضيف إن مبدأ الأغلبية والأقلية السياسية سيتحول إلى أغلبية وأقلية، وبالتالي ينشأ عن ذلك :استبداد الأكثرية" (ص 6 – 7).

• يستطرد المعهد أعلاه في مقدمته "ولقد حاول الممارسون السياسيون " إيجاد حل لهذه الأغلبية في اتجاهين : الأول استخدام الفيدرالية أو مناطق الحكم الذاتي .. وهو استلهام للتجربة الفيدرالية الأمريكية – الألمانية، التي برزت بدافع الحد من غلو سلطة المركز، بتقسيم السلطات على أساس جغرافي، بين مركز وأطراف، علاوة على التقسيم الوظيفي المعروف إلى سلطات تنفيذ وتشريع وقضاء. أما الاتجاه الثاني فهو التجربة التوافقية التي نشأت عملياً بعد الحرب العالمية الثانية، اعترافاً بقصور النظام الديمقراطي الأكثري، المألوف. وعليه، فإن الديمقراطية التوافقية انطلقت من قاعدة ديمقراطية راسخة وليس ناشئة" (7 – .

• وحسب (أرنت ليبهارت) إن أهم ما يميز التجربة التوافقية هو أربعة عناصر أساسية وهي : (1) حكومة ائتلاف أو تحالف واسعة – تشمل حزب الأغلبية وسواه -، (2) مبدأ التمثيل النسبي – في الوزارة، في الإدارة، والمؤسسات، والانتخابات أساساً - ، (3) حق الفيتو المتبادل – للأكثريات والأقليات لمنع احتكار القرار -، (4) الإدارة الذاتية للشؤون الخاصة لكل جماعة. (ص 8-9).

• ويشير المؤلف بأنه من الصعوبة بمكان أن يتحقق الحكم الديمقراطي وصونه في المجتمع التعددي ويرقى تاريخها إلى قول أرسطو المأثور أن " الدولة تستهدف قدر المستطاع أن تكون مجتمعاً مكوّناً من أنداد وأتراب". فالتجانس الاجتماعي والإجماع السياسي يعتبران شرطين مسبقين للديمقراطية المستقرة (كما) أن الانقسامات الاجتماعية العميقة والاختلافات السياسية داخل المجتمعات التعددية تتحمل تبعة عدم الاستقرار والانهيار في الديمقراطية. يرد المؤلف بنفسه على هذه الأطروحة بأن ذلك : " قد يكون من الصعب، لا المستحيل، أن يتحقق الحكم الديمقراطي التوافقي ويُصان في مجتمع تعددي. ففي الديمقراطية التوافقية، تتعرض الميول اللامركزية الملازمة للمجتمع التعددي للمقاومة بواسطة المواقف البناءة والسلوك التعاوني اللذين يبديهما زعماء مختلف قطاعات السكان، فتعاون النخب هو السمة الأولى المميزة للديمقراطية التوافقية. (أنظر تفصيلاً ص 9- 12).

• ويشير المؤلف بأن هناك من الساسة وعلماء السياسة مقتنعين بأن الديمقراطية لا يمكن أن تعمل في المجتمعات التعددية في العالم الثالث فهم لم يحاولوا حتى إطلاقها أو جعلها تعمل. (ص 14).

• ويُعرّف المؤلف الديمقراطية الوفاقية بأنها إستراتيجية في إدارة النزاعات من خلال التعاون والوفاق بين مختلف النُخب بدلاً من التنافس واتخاذ القرارات بالأكثرية .. وعبارة أخرى، إن الديمقراطية التوافقية تدل على التعددية القطاعية، إذا ما وُسّعت لتشمل كافة الانقسامات القطاعية في مجتمع تعددي، ودُمجت بالديمقراطية الوفاقية. ص (17- 18). ويعتقد المؤلف في مكان آخر بأن الانقسامات القطاعية يمكن أن تكون ذات طبيعية دينية، إيديولوجية، لغوية، إقليمية ثقافية، عرقية، كما يشير المؤلف بأن بعض علماء السياسة يعتقدون بأن الأحزاب السياسية، ووسائل الإعلام، والمدارس، والجمعيات التطوعية، يغلب عليها الاندراج، من حيث تنظيمها، في خطوط الانقسامات القطاعية. أما الجماعات السكانية التي تحدّها هذه الانقسامات فسوف يشار إليها باعتبارها قطاعات المجتمع التعددي. (ص 15). ويلفت المؤلف بأن النمسا، بلجيكا، نيذرلاندز (الأراضي الواطئة)، وسويسرا، هي من النماذج الأوروبية. (ص 12). وبأن من الحالات الأخرى لكسمبورغ، لبنان، ماليزيا. (ص 18).

عن المجتمعات التعددية والديمقراطية في العالم الثالث :

• يستطرد المؤلف (أرنت ليبهارت) بأن الكثير من الدول النامية تعاني – ولاسيما الآسيوية والأفريقية منها، وأيضاً الأمريكية الجنوبية، كغويانا، وسورينام، وترينداد من مشاكل سياسية ناجمة عن الانقسامات العميقة بين قطاعات من سكانها وغياب الإجماع الموحّد لها. (ص 33). ويشير المؤلف استناداً للعلماء الذين يعالجون قضايا المجتمعات التعددية والديمقراطية في العالم الثالث باهتمام بالغ ومنهم واكر كونور صاحب مؤلف (بناء الأمة أم تقويض الأمة؟ باللغة الانكليزية)، "بأن الإطار الأساسي للسياسة غير الغربية هو الإطار الطائفي، ويتلوّن السلوك السياسي كله تلويناً واضحاً باعتبارات ذات علاقة بالانتماء الطائفي .. وبأن هذه الانتماءات الطائفية التي كانت ربما تستند إلى اللغة، الدين، المنطقة، العرق، أو الروابط الدموية المفترضة. ويضيف المؤلف بأن من سمات المجتمعات التعددية : كل جماعة تتمسك بديانتها، وثقافتها، ولغتها، وأفكارها، وطرائقها .. ويعرف المجتمع التعددي بأنه المجتمع الذي تعيش ضمنه "مختلف قطاعات المجتمع جنباً إلى جنب، ولكن بانفصال، داخل الوحدة السياسية الواحدة (ص 33-35).

• ويؤكد المؤلف بأن السمة الثانية من سمات السياسة غير الغربية(للمجتمعات التعددية والديمقراطية في العالم الثالث) هي "انهيار الديمقراطية. فبعد التفاؤل الأولي في الأفاق الديمقراطية للبلدان الحديثة الاستقلال، والمستند في معظمه إلى الطموحات الديمقراطية التي أعرب عنها قادتها السياسيون، حل مزاج من الخيبة. وثمة، في رأي العديد من المراقبين، بأن المجتمع التعددي عاجز عن الحفاظ عن الحكم الديمقراطي".(ص 34-35).

• ويتطرق أرنت ليبهارت بأن هناك من علماء السياسة في مجال المجتمعات التعددية في دول العالم الثالث من يعتقد " التنوع الثقافي أو التعددية يُفرض آلياً في هيكلة الدولة سيطرة أحد القطاعات الثقافية. وينقل أرنت ليبهارت عن صمويل هنتنغتون بأن .. الاندماج الوطني يستلزم " الاستعاضة عن عدد كبير من السلطات السياسية التقليدية والدينية والعائلية، والعرقية بسلطة سياسية وطنية علمانية واحدة" (صمويل هنتنغتون، الانتظام السياسي في المجتمعات المتغيرة Political Order in Changing Societies ). (أنظر تفصيلاً ص 36- 44).

• ويواصل أرنت ليبهارت بأنه يمكن تعريف الديمقراطية التوافقية استناداً أربع خصائص. العنصر الأول والأهم هو الحكم من خلال ائتلاف واسع من الزعماء السياسيين من كافة القطاعات الهامة في المجتمع التعددي. ومن الممكن أن يتخذ ذلك عدة أشكال متنوعة، منها حكومة ائتلافية واسعة في النظام البرلماني، "مجلس موسع" أو "لجنة موسعة" ذات وظائف استشارية هامة، أو ائتلاف واسع للرئيس وسواه من كبار أصحاب المناصب العليا في نظام رئاسي. أما العناصر الثلاثة الأخرى في الديمقراطية فهي : (1) الفيتو المتبادل أو حكم الأغلبية "الأغلبية المتراضية" التي تُستعمل كحماية إضافية لمصالح الأٌقلية الحيوية، (2) النسبية كمعيار أساسي للتمثيل السياسي، والتعيينات في مجالات الخدمة الوطنية، وتخصيص الأموال العامة، (3) درجة عالية من الاستقلال لكل قطاع في إدارة شؤونه الداخلية الخاصة (ص 47).

وللحديث بقية.

عرض د. جعفر شوطح، استشاري قانوني.

مقالات الكاتب