الطريق إلى الجنوب..!

184

في الظرف الطبيعي تتقاسم (أنت القادم مثقلاً بأشواق العودة ومعاناة السفر) فرحة اللقاء أنصافاً بينك وبين أهلك وأولادك ومحبيك (المفعمة قلوبهم ونفوسهم بمسرة وصولك ومعاناة انتظارك). لكن في ظرف استثنائي واستثنائي جداً, كالذي تعيشه القرية الجنوبية اليوم تضاف إلى أثقال أشواقك ومعاناة سفرك أثقال أخرى, لست تألفها من قبل, وكذلك حال من هم في انتظارك.. أعباء خوفك عليهم وأعباء خوفهم عليك.. وساوس ما قد يصيبهم في غيابك ومخاشي ما قد يصيبك في الطريق.. تبعات ثقال ترهق كاهل القادم وكاهل المقيم على السواء.. فرضت جبراً وقسراً.. لا مناص من تحملها قهراً وحتماً..! الفرحة التي تسكن عيون أطفالك وأهلك عند وصولك إليهم، يصبح بحجمها - وربما أكثر - شعور الرعب والخوف، وهمّ وغمّ السفر إلى قريتك في الطرف البعيد..! فكما الحزن صار هوية، كذلك هو لقاء الأهل تحت لعلعة الرصاص وهدير الموت..! الطرق ملغمة.. وشياطين القتل مبثوثة في التقاطعات والمساحات الممتدة.. ولا أحد يسألك عن الهوية، فأنت القاتل والمقتول.. وانتماؤك المكتوب على الجبين يؤمن لك الطريق.. ولكن إلى جهنّم..! أي طعم للرحيل؟.. المسافات طويلة.. والزمن الفاصل أصبح ثقيلاً بطيئاً كالسلحفاة.. كل شيء طويل مديد.. ثقيل.. وكذلك هو كل ما يدمي القلب ويوجع الروح..! رحلة السفر تطول.. ومشاعر الفرح تذوب.. وكثيراً.. كثيراً ما تتلاشى.. وعبثاً تبحث عنها في عيون الناس حولك.. الأهل والأصدقاء.. الجيران.. جميعهم.. يقفون هنيهات في استقبالك - هكذا تشعر- ولكن سرعان ما تكتشف أن لا أحد يبالي بك.. لا أحد ينظر إليك.. ولا أحد يراك.. جميعهم مشدوهو النظر.. سارحو البال والخيال..! مشاهد عديدة.. تحكي تلاوين القصص.. نصفها مضجرة.. ونصفها الآخر مدمرة.. وبين النصفين فناء سحيق يشبه العدم..! وكلها توحي لك – على الأقل - بأنك لست وحدك الهائم العائم في متاهات الألم والضياع، ومرارة الذاكرة..! الطريق إلى المحافظات الجنوبية تعج بالسكون.. رويداً.. رويداً، وأنت تدلف (مجاهل) القرى المتناثرة يدب الصمت الملفوف بالرعب..! في المحافظات الجنوبية لا وقت للكلام.. لا وقت للسؤال.. فلا أحد يملك الجواب.. ولا أحد يعرف إلى من يرجع السؤال..!! الصمت وحده، أبلغ تعبير عن الحزن..!