عن شيخ حاشد الذي يسير على خطى والده!

167

في حوار له مع صحيفة "الخليج" الإماراتية اليوم ، قال الشيخ صادق الأحمر رداً على سؤال للمحاور "كيف تنظرون إلى شكل الدولة اليمنية القادمة، هل تتفقون مع فكرة الفيدرالية ؟"..  :ما كان عليه آباؤنا وأجدادنا سنسير عليه، فلا كونفيدرالية ولا فيدرالية، هذه المسميات والتقسيمات غربية، والأفضل أن نظل كما نحن عليه الآن.

لا تأتي الخطورة هنا من مجرد رفض فكرة الفيدرالية أو الكونفدرالية بحد ذاتها، وكما حاولت المواقع الإخبارية أن تجعل من هذا الموقف محل إثارة، ولكن الخطورة تكمن في رفض أي فكرة طبيعية لحتمية التطور والارتقاء التاريخي، ومنها فكرة الثورات الشاملة التي تفتح المجتمع أمام خيارات أكثر عصرية وتدفعه مجبراً بقوتها الذاتية والمتوالدة نحو الجديد والتحلل من حِلل الماضي ، وكذلك أي فكرة حديثة، كحلم "الدولة المدنية" الذي داعب خيال الكيانات الثورية، وجعلها تسبح وتتمايل في الفضاء على وقع صدى أنغامه.. فكل هذه الأشياء ما هي إلا مسميات "غريبة" عند "شيخ حاشد"، ولن يسير إلا بما سار عليه "أولياؤه الصالحون" من الآباء والأجداد!

فـ"المثلنة" أو الحضور الطاغي لـ"الأنا المثالي"، "الأنا الأعلى" في كلام الشيخ عن طريق استحضاره للأصل النقي، والمنزّه عن شوائب العصر والتحديث، يجعل من العادات والتقاليد الموروثة سلطة كاملة وأسلوب حياة ومنطق مقدس لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وهو يلتقي مع مفهوم الأصالة في العصبية، كما يقول الدكتور مصطفى حجازي في "الإنسان المهدور"، عن طريق التمسك بالأصول والرجوع إلى اليقينيات والثوابت، وإعادة إنتاج الماضي الذي يكرسه التمسك بالعادات والتقاليد في سبيل الإنتاج الدائم لدوائر القوة الذاتية للعصبية، بينما يأتي الحديث عن التجديد والتحديث في باب البدع والضلالات المبينة الواجب اجتنابها!

وبالنسبة لي، على الأقل، لم تكشف القبيلة هنا عن أمرٍ مفاجئ أو تراجعٍ عن موقف تقدمي سابق، بقدر ما تعبّر عنْ إزاحة لـ "نصف" قناع حاول الجوهر الحقيقي أن يصطنعه في ظهوره الإعلامي طيلة الفترة الماضية للإيحاء بالوقوف في صف الثورة ومبادئها وأهدافها، بينما كانت آلته الحربية، وبالاشتراك مع طرفي النزاع الآخرين، تبعث برسائل واضحة لا لبس فيها إلى ثوار يجلسون في خيامهم بلا حول ولا قوة، لمشاهدة كيف يمكن للمدافع أن تشعل النور في حلكة الأقبية!

كان مثلث الرعب الذي يحيط بالثوار من كل اتجاه في العاصمة صنعاء يُعبر بطريقته الخاصة جداً عن قوته وجبروته وحضوره الكلي والمهيمن كلما حاول النفَس الثوري أن يتصاعد، وكانت الأطراف المتنازعة تفهم بعضها جيداًً، وتعرف ما الذي ينبغي عليها أن توجهه من رسائل وإشارات للآخرين خارج فضاءها الجامع، خصوصاً في الساحات؛ حتى لا تتلبسهم روح ثورية (شيطانية) كما شبهها ذات مرة الشيخ الملهم لقبائل حاشد عبدالله بن حسين الأحمر والذي سيسير الشيخ الحالي على خطاه... وفي عنفوان هذا المشهد الميلودرامي بين أضلاع مثلث الرعب، يطلع هذا الشيخ ليعلن بطريقة (مقصودة) أراد من خلالها الإيحاء إلى حضوره المطلق، الحضور الذي لا يقهر ولا يزاح في مقابل حضور ظل يتهادى إلى المخيلة الشعبية أنه حضور مطلق (لن يحكمنا علي عبدالله صالح ما حييت!).

كنتُ قد كتبت، مع تصاعد اشتباكات الحصبة، مقالاً طويلاً  تحت عنوان "اليمن: إرث الماضي، ومستقبل ثورة"، حاولتُ في هذا المقال أن أرصد الطريقة المراوغة التي تتعامل بها القبيلة مع أي عملية تغيير كبيرة، والقبيلة هنا بوصفها فضاء اجتماعي متكامل ومتضامن ومتشكل في سياق تاريخي، وكان الجميع وقتها يهلل ويكبر، معجباً ومأخوذاً ومفتوناً بالسلوكيات الجديدة للقبيلة التي تركت متارسها في الجبال والشعاب ونزلت تناضل في الساحات بالورود والقدود.. متقاضين، وربما متغافلين، عن أن القبيلة لم تنس الإعلان عن وجودها المستقل داخل الساحات التي قسمت خيام الجمهور إلى شعوب وقبائل (طبعاً ليتناحروا، وليس ليتعارفوا). وكان رأيي حينها، رغم ضجيج تلك الأصوات، وما زال، أن القبيلة لم تساند الثورة من منطلق التسليم بمبادئها وأهدافها، وكما حاولت هي أن تتقمص ذلك الدور منذ البدء بعناية شديدة، بقدر ما كان الأمر يتعلق بنزاع لا يتجاوز حدود فضاءها المتخيل بين المراكز والأطراف لإعادة توزيع المراكز والنفوذ.. وقد تم لاحقاً وبنجاح عزل الهامش المدني الهزيل والضعيف والقلق والذي تشكل على هامش هذا المجتمع التقليدي المحض عن أن يكون طرفاً في أي المعادلة.

إن العلاقة التي تسود في هذا النمط من المجتمعات، وكما يقول أيفانس ريتشارد، هي  علاقة  تقوم بنيتها على ثنائية الانشطار والانصهار المانعة لنشوء الدولة، بما يتجلى في الالتحام داخل المجموعة الضيقة والاصطدام الدائم داخل النسق العام للحيلولة دون بروز السلطة المركزية.

وقد كان مفهوم الثورة بالنسبة للقبيلة لا يتجاوز نطاق هذه العملية، عملية الانشطار والانصهار لإعادة تدوير المراكز وتوزيع الأدوار، أو بعبارة ابن خلدون الشهيرة "شخصٌ يملك وعصبية تحكم، عصبية غالبة وأخرى مغلوبة"

لذلك، ففي الوقت، الذي استطاع فيه أحد الأطراف الآتي من الهامش القبلي بناء قدراته بالاعتماد على كافة العوامل والعناصر، القديمة والحديثة، بمستوى لم يعد للمركز التقليدي قدرة أو حيلة لتوجيه أو تطويعه.. كان هذا البروز، بطريقة أو أخرى يهدد، ما يعتبره المركز استحقاقاً تاريخاً حصرياً لا يجوز التنازل عنه، وقد كانت الثورة فرصة مناسبة للتخلص منه نهائياً.

إن استمرار القبيلة في إعادة إنتاج نفسها في اليمن الأعلى كما يقول الباحث البريطاني بول دريش لا يعتمد فقط على قاعدتها المادية أو وضعها القانوني، بل في التاريخ المتخيل للقبيلة كما تصوره هي. (لهذا لم يأت من فراغ قول الشيخ صادق بالسير على خُطى الآباء والأجداد، والمسألة هنا لا تقتصر فقط في العنصر الرمزي للعادات والتقاليد وحضورها في السلوكيات اليومية والعامة، ولكن يتعدى ذلك إلى الطريقة التي يتصور فيه المركز نفسه ودوره في فضاءه المتعين).

لقد كانت الدولة في اليمن باستمرار متممة واضحة للقبيلة كما يقول دريش أيضاً، مع إن الدولة والقبيلة لا يمكن الفصل بينهما من الناحية التجريبية، وقد وصل الأمر في أوقات معينة أن يكون الزعماء القبليون أكثر نفوذاً من الحاكم.

ومن هنا، لم تأتِ عملية انتقاء عبدربه وباسندوة، والإصرار الشديد على اختيارهما نزولاً عند رغبة صالحة لإفساح المجال أمام عناصر جنوبية وكما تم تصدير الأمر في الظاهر، بقدر ما جاءت وفقاً لتقليد سائد طويلاً حكم عملية الاختيار والانتقاء عند فشل الحاكم على فرض اختياراته؛ ولطالما رغبت القبيلة في اختيار الأضعف قدراً، والأقل شأناً (حسب معاييرها) حتى لا يستطيع أن يُغير من عناصر وشروط اللعبة، لعبة السلطة والنفوذ!