وداعاً فخامة الرئيس... وداعاً أيها العملاق!!

143

المقال التالي نشر في 8 أكتوبر 2009 في صحيفة "الحياة اليوم" التي أسستها وتوليت رئاسة تحريرها حتى توقفت في 30نوفمبر 2010 بعد صدور 45 عدداً منها، هذا المقال، بعنوانه الحالي، وآخر بعنوان "غياب الوحدة وتعز عن حفلة مايو"، كتبت فيه: "غداً سنكتب لمن بعدنا: إن علي عبدالله صالح هو أسوأ حاكم عرفته اليمن"، وثالث: "إلى اللقاء في الحرب السابعة"، ورابع عن "عودة الحدود الملتهبة" وغيرها من المقالات والأخبار والتقارير، التي دفعت كثير من أذيال السلطة إلى الإيعاز للمعلنين بتوقيف إعلاناتهم في الصحيفة، والزمت الجهات الحكومية بعدم دفع المستحقات المالية مقابل نشر التهاني والتعازي التي نشرت باتفاق مسبق، لكي يضيق بنا الحال ويتم توقيف الصحيفة نهائياً. وقد حدث.

 

لا تحسُر على تجربة مرت بحلوها ومرها، غير أني أتذكر الآن شيئين اثنين؛ أولهما: أن ما من لسان إلا وأرغت وأزبدت وعوت بأني مدفوع من السلطة لإصدار صحيفة، وهم يعرفون من الذين يقبضون من السلطة، سراً وجهراً، وكيف بدأ ثراءهم ينموا كالنميمة، ولو كنت "أقبض" لما وصل بي الحال إلى أن أدير الصحيفة بكاملها لوحدي، ومن غرفة في بيت أولادي، وليس سوى المُخرج الرائع عدنان العزي، يزورني ليلة كل أحد لتجهيز العدد قبل موعد صدوره بيوم واحد، حتى توقفت "الحياة اليوم" نهائياً.

 

الشيء الآخر: لا يعنيني الآن رحيل علي عبدالله صالح، وإن كانت فرحتي غامرة بانتخاب اليمن وتغليب مصلحة الوطن، على مصلحة تجار الأزمات وأمراء الحرب. إن ما يعنيني في هذه اللحظة هو الشعور بالانتصار للرجل الذي أشعل فينا جذوة الحرية، وأدار عجلة التغيير، ورحل زاهداً طاهراً، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا.

 

وقد كتبت المقال بعد اتصال أجريته مع "فاروق" زوج ابنته إلى الهند وقال لي إن صحة عمه تتدهور سريعاً، وأرادت عناية الله أن يعيش إلى بعد نشر المقال بشهور قليلة.


أدعكم مع المقال:

في تقدير غير اعتباطي قررت الدساتير الغربية أن تكون مدة الرئاسة 10 سنوات كحدٍ أقصى، استجابة لدراسات طبية تؤكد أن كل من يتولى مسئولية إدارة دولة لا يمكن أن يعمل بذهنية نظيفة لأكثر من 10 سنوات، لذلك فمُدد الرئاسة في الغرب لدورتين فقط، كل دورة أما 4 سنوات كأمريكا وبريطانيا، أو 5 سنوات كفرنسا.

 

في البلدان العربية كل الدراسات الطبية تؤكد أن الرئيس هو "الفرد المعجزة"، و"صمام الأمان" ومحقق "المعجزات"، وعليه أن "يكمل المشوار". وأي تفكير بالانسحاب فهو "تهور"، وأي محاولة لإيجاد بديل فهي "خيانة وانقلاب"، ولا يخلصنا من الرئيس العربي غير أن يتدخل عزرائيل شخصياً.

 

بالأمس نقلت وسائل الإعلام المحلية عن أطباء المهندس فيصل بن شملان تأكيدهم أن الرجل يلفظ أنفاسه الأخيرة، في مستشفى "ارتيمس" بالهند... واحد من أعظم الرجال وأنظفهم يحتضر الآن بصمت مطبق، دون ضجيج... السلطة تخوض حربها في الشمال، وترقع خرقها في الجنوب، والمعارضة تجلس القرفصاء لاصطياد أخطاء النظام، بمهارة عالية.

 

الرجل الذي بحثت عنه المعارضة كأنظف وجه مقبول ليكون مرشحها في الانتخابات الرئاسية 2006؛ يحتضر الآن في شرق الكرة الأرضية... هناك في الهند، حيث الموطن الأصلي لشجرة البرتقال، وحيث تقول الأساطير أن هذه الشجرة "ميراث الحكمة"، وحيث يرقد جسد غاندي النحيل، غاندي الذي سقطت فردة حذاءه أثناء صعود القطار، فقرر بسرعة مذهلة ما لم يكن في الحسبان: ألقى الفردة الأخرى من النافذة، متمنياً لمن وجد الأولى أن يجد الأخرى!!.

 

وإلى جانب قبر غاندي مؤسس ثورة اللاعنف، تذوي روح مؤسس ثورة اللاخوف؛ المهندس فيصل بن شملان، الرجل الذي قدم للناس أرقى نماذج العفة، ونظافة القلب واللسان، حتى في أحرج اللحظات أثبت أنه كبير على دناءة السلطة، و"بلطجة" المستفزين.


من منا يجرؤ على نسيان موقف بن شملان حين أُتهم بالإرهاب في ذروة حملته الانتخابية، يوم خرج الرئيس صالح شخصياً باكتشافه المعجزة؛ وقال إن الدلائل والقرائن تؤكد أن الحارس الشخصي لبن شملان كان يأوي جماعة الإرهابيين المتهمين بتفجير مصفاة مأرب والضبة بحضرموت، ثم لوح بيده بصورة لبن شملان وخلفه حارسه "أحمد صالح الذرحاني".

 

وتلك واحدة من أقذر المسرحيات في التاريخ السياسي اليمني المعاصر، ليقول القضاء "المشلول" بعد أكثر من سنتين كلمته ببراءة حارس بن شملان.

 

حملة التشهير التي تعرض لها بن شملان قُبيل الاقتراع بيومين؛ أثرت كثيراً في أداء الناخبين، وفي تغيير النتيجة التي كانت متوقعة أصلاً، ولم تُؤثر مطلقاً في مكانة رجل بحجم العظيم بن شملان، الرجل المتماسك القوي الذي آثر الصمت، وكل ما قاله يومها عن حارسه: "لم أكن مرتاحاً له، كان يضايقني حتى فوق السيارة".


لم يكن بن شملان بانتظار لقب "فخامة الرئيس" لأنه يعرف ما من حاكم عربي سلم السلطة طواعية، عبر صناديق الاقتراع، بل عبر عزرائيل، أو الانقلاب.

 

عاد الرجل إلى بيته يحمل في قلبه جرح الاتهام، وفي جسده خلايا سرطانية تنهشه، كيد مسئول في جوف خزانة، وفي سيرته إضافية نوعية لا يحظى بها إلا عظيم.


كان يعرف أنه لن يفوز، لكنه أراد أن يكسر حاجز الرهبة، أن يقول للناس: الرئيس ليس إلهنا، بمقدورنا أن نكون إذا أردنا.

 

وكان واضحاً أن للرجل نزعةً صوفيةً تجاه الدنيا ومغرياتها، فهو لا يتكلم عن نفسه إلا بمقدار ما عرف الناس عنه.. تخيلوا قُبيل الإعلان عنه مرشحاً للانتخابات الرئاسية باسم ستة أحزاب لا ينتمي إلى أيٍ منها، كانت في ذلك الوقت اثنتين من أرقى دور النشر البريطانية والأمريكية تصدر للمتخصص في الهندسة المدنية "بن شملان" كتابين في الاقتصاد، والعولمة الاقتصادية، لو كان ذلك لشخصٍ غيره لكان الكتابان مقررين حفظاً في جميع المناهج الدراسية، من الابتدائية إلى الجامعة.

 

في عام 1995 قدم بن شملان استقالته من وزارة النفط، وترك في حوش الوزارة السيارة الفارهة المصروفة له، احتجاجاً على فساد لا يليق أن يحدث في عهده، وفي 2001 استقال من عضوية البرلمان احتجاجاً على تمديد النواب لأنفسهم سنتين إضافيتين، وقال كلمته المشهورة: "الناس انتخبوني لأربع سنين فقط، وما قالوا لي أمدد"!!.

خرج من البرلمان وترك قوارض الفساد يصوتون على القروض.

 

بن شملان يفارق الحياة الآن متوجاً بحب الملايين، متوهجاً بسيرته العطرة، محفوفاً بكل القلوب الطاهرة. وكم هي المرات التي سمعت فيها من أعداءه من يقول: بن شملان رجل نظيف نزيه، لا يملك شيء.

 

بن شملان لم تشفع له مكانته بالذهاب إلى أرقى مستشفيات العالم، ولم نرَ أو نسمع شيئاً عن ملايين محبيه، أنها ذهبت به إلى ألمانيا أو أمريكا، بدلاً من الهند التي ذهب إليها بعد أن باع كل ما يملك، ولا أدري أن كان استعاد أرضه المنهوبة في المكلا، أم قرر الرحيل بمهابة صوفيٍ لا تليق به الصغائر والرزايا.