بعيــــــــــــــــــــدا عن السياسة

56

إن توزيع البسمات المشرقة على فقراء الأخلاق صدقة جارية في عالم القيم.... (حكمة)

 

كم نحتاج من الوقت لإحصاء ما تقترفه السياسة بحق الثقافة والأدب والفن في الحياة العامة والخاصة؟

كم يجني المجتمع حاضرا ومستقبلا حين تصبح السياسة - وحدها و بلا وعي - رأسمال أبنائه، تشل قدراتهم وتعطل إمكاناتهم لتتوالى الخسائر وتتراكم الانتكاسات،

كم تتعطل الأقلام حين تصير حكرا على السياسة وشئونها بعيدا عن الحياة وشجونها، تبحث عن ما يقوله الكبار وتتغافل عما يعيشه البسطاء، حتى وإن كانت الحقيقة تتجلى في ما يعيشه هؤلاء ويكابدونه وليس ما يروق لأولائك وينمقونه!

الانشغال الدائم بالسياسة يعني الحرمان المستمر من متعة المطالعة المستغرقة في مدرسة الحياة والتأمل الواعي في خفايا فصولها التي تتقلب بنا ونتقلب فيها.

حين نقصر متابعاتنا على آخر ما تضخه ماكينة السياسة نصاب بالأمراض العارضة دون شعور، الشعور نفسه يتلاشى حتى لو صارت الأمراض مزمنة ومستعصية كما هو حال كثيرين، وعندما لا نتحرك إلا وفق أجندة السياسيين نتجمد دون وعي، لأن الحركة بدون الوعي سكون مغلف والحياة بلا نبض موت مؤجل،

كم نلغي من ساعات العمل الجاد ونحن نبحث في السراديب عن حلول لألغاز السياسة وأحاجي السياسيين، وكم نريق من ماء أوقاتنا حين نطيل التفكير في نبش دفاتر أصحاب المعالي المتخمين بجوع الفقراء المعدمين،

ندرك مبررات الخوض في المعمعة لكن لا مبرر للتيه الدائم في المعمعة ذاتها لمجرد الخوض نفسه،

كم صرنا مهووسين بمتابعة أخبار الساعة حين يكون عنوانها الخادع يشير للسياسة، وكم تطرب لسماع خبر عاجل يتصدر شاشة التلفزة ثم تتغافل حين يردك اتصال من صديق قديم عرف للتو رقم تلفونك وأراد الاطمئنان عليك لا أكثر،

الإيغال في حقول السياسة الملغومة يحرمك من متابعة ومضات مشرقة تكتب بعيدا عن وهج السياسة وبريقها المخادع،  كتلك التي تخطها أنامل العزيز المبدع والأديب المثقف/ احمد السقاف حين يقدم عصارة جهده الجميل موجزا في القليل من السطور حياة فنان او شاعر، حكاية قصيدة أو قصة كتاب،

المبالغة في البحث اللا متناهي في سراب السياسة وصحرائها المترامية ترغمك على تجاهل رسائل صديق عزيز يحاول الوقوف على آخر أخبارك، أو قارئ حصيف يتمنى أن يوصل لك صوته دون جدوى،

الأقلام الجائعة في مائدة السياسة تبدو متخمة إذا ما طلب منها تناول شأن إنساني أو قضية حية لا صلة للساسة بها، وإذا كان الأمر كذلك فمتى يحين الوقت لإنصاف مناضل أفنى حياته في سبيل وطن يتنكر له يوما بعد يوم ويبادله بغير الوفاء، متى نجد الوقت مناسبا للوقوف إجلالا لكوكبة النضال الصامت النبيل وأفرادها يتوارون عنا واحدا بعد آخر، ولا نتذكرهم إلا في حفل تأبين يتيم في قاعة قصية أو خبر نعي قصير في زاوية منسية،

متى يحين الوقت لإلقاء التحية على الرعيل الذي ضحى لأجلنا، والجيل الذي تفانى في سبيل الخلاص المنشود، ولسان حاله:

ستعلم أمـــــــــــتنا أننا      ركبنا الخطوب حنانا بها

متى يقف القلم إجلالا للوالد العزيز/ صالح ناجي حربي، وأمثاله من الجنود/ القادة المجهولين رغم علم الجميع بما قدموه، متى نحيي هذا المناضل الذي يحمل رتبة إنسان وديع و الإنسان الذي يتحلى بسمات مناضل نبيل؟

أن تغدو مهموما بتفاصيل السياسة اليومية ودوائرها المفرغة يعني أن لا تكترث بعموميات حياتك التي تدور بك و لا الموت الذي يتربص بك، ولا بأوجاع غير عادية للناس العاديين،

يعني أن تكون في فوهة مدفع لا يكف عن إطلاق قذائفه العمياء، أو أن تكون هدفا لسهام بليدة من رماح حمقاء لا تجيد سوى الرماية، أن تكون واقعا في شباك عداوة بلا مبرر.

السياسة بلا روية تعني أن تتعامى عن رؤية خصال حميدة يتحلى بها من تعدهم خصومك وتجمل مساوئ من تقف معهم على ذات الجبهة.

مقالات الكاتب