نضال سلمي بتضحيات ..

74

النضال السلمي حالة وابتكار عبقري إنساني له من القوة والمفعول ما يجعله اقوى بكثير من البارجات الحربية والمدافع وراجمات الصواريخ .

النضال السلمي .. عمل لا يضاهيه شيئ وأداء ليس له إلا أن يؤتي ثماره العاجلة والآجلة على أكمل وجه فقط حين يتوفر لهذا النوع من الثورات رجال يحبون السلام كما يحب الطغاة الحروب ، يتوجهون نحو الرصاص بقدر مايفر المستبدون من هدير الجماهير نحو الأقبية.

وبقدر ماتشعل حالات الصراع العنيفة ومثلها الثورات المسلحة من رغبات عميقة للتدمير والتدمير الآخر، فإن الثورات السلمية توقض في نفوس وعقول الأمة ميلا نحو السكينة والألفة والقبول وتخلق حالة كبيرة من السلم الاجتماعي والسكينة العامة بسرعة مذهلة وقدرة عجيبة.

النضال السلمي طريقة فعالة مجربة وآمنة في أحداث التغيير الجزئي والشامل ، في مكافحة حالات الفساد مثلما هو أسلوب حيوي في مناهضة حالات انتهاك الحريات ، وهي الأسلوب الأنجح في الدفاع عن حقوق الإنسان وهي الوسيلة السحرية في تغير الأنظمة وإسقاطها.

وما ثمة غير النضال السلمي وسيلة لضمان حكم رشيد وإقامة مجتمع ديمقراطي حر وقوي ومستقر ، هذا ما تقوله التجارب في كل بقاع الأرض التي شهدت تحولا ديمقراطيا وعاشت الحكم الرشيد واقعا معاشا شرقا وغربا شمالا وجنوبا ما ثمة استثناء لهذه القاعدة التي تقول إن الدولة المدنية والمجتمع الديمقراطي والحكم الرشيد يولد ويتخلق وينمو فقط في ظل حاضنة اسمها النضال السلمي ، تبثه ثقافة وتمارسه واقعا وتصر عليه مبدأ وقيمة أخلاقية لا انحراف عنها مهما كانت كثافة الرصاص الموجهة نحو الصدور العارية وإن بدا أن الطريق شاقة وأن الهدف صعب المنال .

يمكننا القول أيضا أن النضال السلمي الممهور بالتضحيات والمعزز بالاستعداد الدائم لتقديمها يمتلك وبالقدر ذاته من القدرة والفعالية ما يجعل عروش المستبدين وكراسيهم تترنح وتضطرب وتتهاوى في وقت قصير وبتضحيات اقل بكثير من التضحيات المدفوعة في حالات التغيير العنيفة ، وبقدر ما ينجح الحاكم في خلق أسباب الصراع وتغذية عوامل التدمير والاحتراب الداخلي في حال الثورة المسلحة، فإنه يقف عاجزا تماما أمام المسيرات السلمية ومعها كافة أشكال الفعل السلمي التي تحدث انهياراً متتابعاً وشقوقاَ عميقة في نظامه، في حين تذهب كل محاولاته في خلق الاحتراب الأهلي أدراج الرياح ويشعر الجميع بحالة غير مسبوقة من الأخوة والشعور بالانتماء الوطني الجامع .

 أيها الإخوة ما ثمة غير المسيرات والاعتصامات والعصيان والهتافات والرأي الحر وسيلة أخلاقية حضارية للتغيير ، وهي فقط تكون وسيلة للتغير حين يتوفر لها استعداد للتضحية وحين تراق الدماء البريئة على الإسفلت فإن هناك عروشاً تتهاوى وأوطاناً على موعد وشيك للصعود إلى القمة .

بالإمكان القول إن الثورة السلمية حين تجنح إليها الشعوب فإنها تؤتي نتائجها الباهرة حتى قبل أن يتحقق لها إسقاط النظام، انظروا فقط كيف تمكنت ثورتكم من تغيير نظرة العالم لليمن واليمنيين من شعب خطر ومتوحش نجح النظام المخلوع في تصويره للعالم إلى شعب حضاري ، غدا خلال أيام محل فخر وتفاخر من قبل الجميع دول ومنظمات وأفراد . لقد نجحت ثورتكم أيها الأحبة في خلق حالة من الشعور بالانتماء الوطني لدى إخوانكم في المهجر الذين باتوا يهتفون نحن يمنيون لما يلمسونه من نظرات الإعجاب والإكبار المصاحبة في كل مرة يكشفون فيها عن هويتهم بعد نظرات الازدراء التي طالما جلبها عليهم النظام المخلوع.

كيف خلقت حالة من الحب الشامل والسلام بين اليمنيين ، ألم تختفي الصراعات والثارات القبلية أو تكاد ؟ ألم تقابل الثورة السلمية بحالة شاملة من التسامح والعفو الاجتماعي ؟، ألم تشهد صعدة حالة سلام ووئام وهي التي تطفح بآثار ستة حروب مدمرة ابتليت بها وكان لها أن تخلق لولا الثورة السلمية حالة مزمنة من الثارات والتدمير.

 أراهن أن الإحصاءات عن الجرائم الجنائية لو وجدت فسوف تخبرنا أن الجريمة في أدنى معدلاتها كانت أثناء شهور الثورة السلمية حتى مع انهيار الدولة الشاملة ومع ارتكابها إبان سقوطها لخطيئة تسليح المليشيات واللصوص وأصحاب السوابق .

لقد حققت ثورتكم السلمية الكثير في ظل زمن قياسي، شهد النظام تفكك بناه وعوامل قوته وهو الذي طالما تفاخر بمهارته وقدرته في الرقص على رؤوس الثعابين وهو الذي ادعى بأنه صمام الأمان وان رحل فبعده الطوفان ، وها قد ذهب وما ثمة طوفان وما ثمة ثعابين ، وما هنالك غير شعب ألين أفئدة وشعور اجتماعي عميق وصادق بالأمن والسلام كل ذلك في ظل فراغ شامل في السلطة بمستوياتها التشريعية والتنفيذية والقضائية وقبل أن تقدم الثورة شخصياتها النزيهة وبدائلها الرشيدة في الحكم وإدارة البلاد.

عليكم أن تعلموا أيها الأعزاء أن حادث جامع النهدين الذي قوبل بصمت عالمي يشبه الإقرار، أقول أن الصمت العالمي إقرار مباشر في أن رموز النظام يستحقون ما طالهم

أقول أيضا إن الحادث وما قوبل به من صمت دولي يشبه المباركة ما كان له أن يتم لولا ثورتكم السلمية التي افقدن النظام الشرعية والمشروعية ، ونزعت عنه عوامل القوة وسلبته القدرة على الفعل ليجد نفسه محاصرا في دار الرئاسة والذي هو الآخر لم يعد آمن فما ثمة مكان، فما ثمة مهرب من ثورات الشعوب السلمية ذات النتائج العظيمة التي لايمكن التنبوء بمداها.

لست هنا اظهر نزوعا نحو العنف او مباركة له ولم اتراجع عن ادانة الحادث المؤسف الذي لاترضاه ثورتنا السلمية ولا تعتمد عليه، لكني أقرر أن كل شيئ سيئ سوف يطال الحكام المستبدين حين لايستجبون لثورات شعوبهم السلمية وحين يظنون ان رصاصهم اقوى من الصدور العارية.

أيها الأعزاء ان دماء الثوار لا تذهب هدرا وليست فعل مغامر، وهي لا تنكسر أمام الرصاص ، تقول العدالة الالهية والفطرة الإنسانية وما أودعه الله الحي من أسرار في هذا الكون أن لها عواقب وخيمة على القتلة وعروشهم سرعان ما تنزع عنها عوامل القوة بالقدر الذي تكسب فيها الثورة عوامل التعاطف النمو وفق معادلة موضوعية وسنة كونية لا تبديل لها.

وعليه أيها الثوار ادعوكم إلى أن تنظروا إلى كل قطرة دم تراق وكل روح تزهق في خضم الثورة السلمية على أنها ليست مجرد أرقاماً للضحايا ، وقتلى جلبها سوء التخطيط والتقدير وسببها الفعل المغامر والتصرف غير المسؤول ، إن مثل هذه النظرة ومثل تلك الأقوال عمل غادر وغير مسؤول لا يقل سوء عن القتلة ومن يساندونهم.

ومن شأن مثل تلك الأقوال حتى وان ادعت العقلانية والحكمة والحرص على سلامة الشباب ان تجرد الثورة السلمية من روحها وقوتها وكل عوامل النصر والقدرة على الفعل والمقاومة والصمود ، أنها تسلب الثورة الاستعداد المطلوب والدائم للتضحية ، وتنزع عن الثوار الإقدام والشجاعة مثلما تسلب الأبطال الشعور بالرضى وهم يجودون بأرواحهم ودمائهم في كل مرة يواجهون رصاص المستبدين بصدورهم العارية، من شأن تلك الأقوال المتخفية وراء ادعاء العقلانية والحكمة أن تخلق حالة من الشعور بعقدة الذنب لدى من يقودون المسيرات ويدعون لها ويشاركون فيها في كل مرة يحظى فيها احدنا بالشهادة وفي كل مرة يكرم الله ثائرا بطلقة غادرة تخترق جسده العظيم ، وهو لعمري شعور سلبي خاطئ من شأنه أن يوقف عجلة الثورة السلمية وينزع عنها المخالب والأنياب فتتوقف المسيرات ويحجم الثوار عن المضي نحو القصور وأوكار المستبدين ويحجبون أنفسهم وراء حصون وأسوار من الادعاءات والتثبيطات تجعل المستبدين وحدهم في مأمن وتاليا بإمكانها أن تصل إلى ما وراء الأسوار والحصون، حيث مخيمات المعتصمين فتفعل فيها ما تشاء . بعد أن حرم الثوار من القدرة على التضحية بفعل ثقافة عرجاء وأفكار غبية تقول تضحيات الثوار ضرب من التهور والانتحار.

تلك دماء تروي شجرة الحرية والكرامة التي لا تنمو دون تضحيات ودون أرواح زكية تخلق فيها النماء والحياة .

وحدهم المستبدون من يتعين عليهم أن يكفوا عن إطلاقً الرصاص ، ومن عليهم أن يسلموا أنفسهم إلى عدالة الثورة السلمية ومشيئتها الغلابة ، وإلا فإن المسيرات والاعتصامات ستجوب الشوارع وتحاصر القصور والمنشآت العامة حتى يقضي الله امراً كان مفعولا، هكذا يجب أن نتعامل دوما إذا أردنا لثورتنا أن تحقق أهدافها كاملة .

علينا ان نتحلى بهذه الثقافة إبان مرحلة إسقاط الحاكم وأثناء المرحلة الانتقالية وما بعدها علينا أن نجنح للفعل السلمي للمطالبة بالتغير وللتعبير عن الاحتجاج ، وإلا فإن الثورة السلمية سينالها التعثر والقصور وستموت في حين أن الاستبداد سوف يعود مرات ومرات طالما أغمدت المسيرات والاعتصامات والعصيان المدني وطالما وضعت قيود أمام حرية التعبير وأمام الجهر بالرأي الحر.

علينا أن نتسلح بهذه الثقافة السلمية التي تجنح وبصورة مستدامة للنضال السلمي بتضحيات لإكمال إسقاط النظام اليوم ، ولضمان عدم الانحراف أثناء الفترة الانتقالية غدا ، ولكفالة الالتزام بمعايير الحكم الجيد والرشيد بعد غد ، لا تلتفوا أبداً لمن يقول لكم على مسيراتكم أن تتوقف مادام علي عبدالله صالح قد رحل ولا تلتفتوا لمن يقول بأن عليكم أن تتوقفوا لأن في الجوار بلاطجة وقناصون أو لأن المرحلة الانتقالية لا تحتاج للمسيرات لأن فيها حكام معصومون ، ولا تبدو اهتماما لمن يقول يمن ما بعد نظام علي عبدالله صالح في غنى عن المسيرات والاعتصامات عليكم ببساطة أن لا تلتفتوا لكل أولئك لأن إسقاط النظام وإقامة دولتكم المدنية على أنقاضه مرهون فقط بإشهاركم الدائم للمسيرات والاعتصامات في وجه حكام الأمس واليوم وغدا فورا ولحظة حدوث أي انحراف دون تبرير أو تسويف أو تأجيل وإلا فإننا لا نفقه عن النضال السلمي شيئ ولم ندرك بعد مدى أغواره .

التحية لقائدنا العظيم الشهيد حين ولد وحين استشهد وحين يبعث حيا

إن امتنا وشعبنا سيظل مدينا له ولرفاقه الشهداء بكل ماسيشهده من مستقبل أفضل ومن دولة رشيدة ومدنية آتية لا ريب فيها .

مقالات الكاتب