ثورة الجنوب بين الجمود وضرورة التغيير

69

بادئ ذي بدء أود الإشارة إلى التفريق بين ثورة الجنوب التي بدأت في 2007 والتي تعتبر هبة شعبية حقيقية شاركت فيها مختلف الأطياف في الجنوب وبين نقدنا لسياسات وأعمال وأقوال تصدر عن بعض الفصائل في الحراك أو بعض التوجهات والشخصيات . فالحال الأول يعبر عن ثورة عامة , والحال الثاني هو جهد شخصي أو جماعي يجب أن يخضع للنقد والمراجعة والتقييم وتغيير الأساليب دون أي غضاضة فهذه الفصائل وهؤلاء القادة يعبرون بالدرجة الأولى عن أنفسهم ولا يعبرون عن الجنوب .

كثيراً ما نسمع هذه الأيام من يتغنى بأسبقية الثورة في الجنوب وأنها البذرة الحقيقية للثورات العربية وأن الفضل والسبق لها قبل أن تظهر الثورة التونسية والمصرية . وهذا الكلام حق وصدق ولا يمكن إنكاره فالثورة في الجنوب بدأت في 2007 وخاضت تجربة رائدة سقط في خضمها المئات بين قتيل وجريح , وسجن الآلاف وقصفت بعض المدن وحصل ما لا يخفى . ولكننا لو تأملنا في حقيقة الأمر لوجدنا أن ما أحدثته الثورة التونسية من أثر وما حركته في العالم العربي لايمكن مقارنته بثورة الجنوب التي لم يصل تأثيرها حتى الى المحافظات الشمالية بل إن أثرها ضعيف في بعض محافظات الجنوب نفسه .

مشكلة قيادات الثورة الجنوبية أنهم قزموا الثورة وحصروا وجودها في مربعات ضيقة صنعت لها عداوات مختلفة وعقبات لم يكن هناك من داع لها . طوال الأربع سنوات الماضية من ثورة الجنوب لم تنجح القيادات الجنوبية في الخروج بالثورة من كونها هبة شعبية عفوية غير منظمة للوصول بها لمرحلة ثورية حقيقية تتقد وتتوهج يوماً بعد يوم ويغذيها القادة بالفكر والمعرفة والأخلاق المتسامية , مقارعين الحجة بالحجة والإعلام بالإعلام , مستخدمين في ذلك الخطاب الراقي والفكر السامي والتوجيه المناسب والتأهيل طويل المدى لكوادر الثورة . فما حصل كان خطاباً شمولياً يوزع صكوك الوطنية على من يشاء ويحرمها عمن يشاء . ماحصل كان خطاباً يفرق أكثر مما يلم وينفر أكثر من أن يقرب. لدرجة إحجام بعض مكونات الطيف الجنوبي عن المشاركة الفاعلة, لأنها تشعر أنها بهذا الخطاب ليست في مكانها الصحيح فلا توافق في أسلوب الخطاب وأفكاره مع أفكارها وتوجهاتها . وخير دليل أنه لما دعى داعي التغيير وهبت نسائم الحرية مع بزوغ الثورة العربية بندائها الخالد وشعارها الذي هز جنبات الوطن العربي ( الشعب يريد إسقاط النظام ), هبت الجماهير في الجنوب بمختلف أطيافها نحو هذا الخطاب الراقي الذي لا يستهدف أي مكون ولا يتعرض لأي شخص أو جهة إلا رموز الظلم وأصل كل فساد . فلو كان خطاب الثورة الجنوبية بهذا الشكل لما تخلف أحد ولكسبنا أيضاً رافداً لثورتنا من إخواننا في الشمال .

لم تنجح ثورة الجنوب في الخروج بفعالياتها من إطار ترقب المناسبات الحولية التي لا تأتي إلا بعد أشهر مما يفقد الثورة زخمها . كما لم تفلح الثورة في اختراق العاصمة عدن لتنشأ فيها الثورة المستمرة أسوة بالمكلا مثلاً والتي تشكل حالة أفضل . ظن البعض أنهم بنقلهم للثورة إلى الأرياف أنهم سيحققون مكاسب للثورة ولكن هذا مع الأسف ما انعكس سلباً عليها من عدة جهات. منها أنه بدلاً من طغيان الطابع المدني المتحضر على الثورة صارت مطبوعة بشكل أو بآخر بثقافة الأرياف بما تحمله من حب للتكتل والتمايز والإقصاء وفرض الرأي , والأهم طبعاً هو غياب الثورة عن الساحة العالمية وانزوائها في جبال وقرى بعيدة عن تسليط الأضواء كما لو كان الحال في مدينة بحجم عدن .

ربما يقول البعض أنت تظلم ثورة الجنوب بمقارنتها أو محاكمتها وفق واقع اليوم ووفق متغيراته وكأنك لم تعش ظروف ذلك الوقت وصعوبة العمل فيه . فأقول إن المشكلة الكبرى عندنا هي في الجمود المتسلط على الجنوب وانعدام الروح الإبداعية التي تفكر وتجدد وتتعامل مع واقع الحال بحكمة وبعد نظر . وأعتقد أن السبب في كل ما يعانيه الجنوب من تعثر في ثورته وسعيه لتحقيق العدالة لقضيته يعود إلى فشل القيادة بكل ما تعنيه الكلمة في إحداث هذا التغيير في الطرق والارتقاء في الأداء. فلا نلوم هذه القيادة على عدم التطور والتغيير بعد تجربة 4 سنوات مضت فحسب, بل المشكلة هو في عدم استفادتهم من تجارب الستة أشهر الماضية وما حصل فيها من طوفان ثوري وتفجر إبداعي عم كثير من البلدان العربية ووصل إلى اليمن.فهاهم قيادات وشباب ثورة الجنوب يقفون جامدين دون اعتبار مما جرى واستلهام لبعض الأفكار الجديدة التي يمكن أن تساعد على حل قضية الجنوب مع الحفاظ على أرواح الناس ودمائهم .

كانت فعالية تشييع الشهيد أحمد الدرويش أوضح مثال على الجمود وعلى السلبية الكبيرة التي تعيشها ثورة الجنوب وكأن هذه المسيرة والفعالية هي عينها ما كان يقام قبل أربع سنوات ! فلم نر فيها من ايجابية سوى الحشد الكبير الذي حضر بسبب الإعلان في بعض القنوات والعديد من المواقع الإلكترونية . أم عدا ذلك فقد رأينا عدم الانتظام وعدم الإعداد المناسب في تساهل عجيب واستهانة بدماء الأبرياء التي قد تسقط بسبب الفوضوية وعدم الترتيب الجيد. أين هؤلاء من الاستفادة من تجربة اللجان الأمنية في صنعاء ليحافظوا على سلمية المسيرة والتأكد من خلوها من المسلحين أو المدسوسين ؟ . أين هم من توجيه الشباب بعدم استفزاز العساكر و إهانتهم بأقذع الألفاظ حين كانوا يمرون على المعسكرات والنقاط في طريق التشييع ؟ . أين هم من التنسيق من بُعد مع القيادات الأمنية ولو عن طريق أشخاص آخرين لضمان الخروج بهذه المسيرة الى بر الأمان ؟ .

لو تأملنا في قضية شهداء وجرحى الثورة الجنوبية والذين تنسبهم قوى الحراك إليها مع أنهم من مختلف الأطياف , سنجد عدة مظاهر تبين أن الجمود وعدم التجديد هو السمة البارزة مع أهم قضية تتبناها الثورات . كيف يمكن للجنوبيين معرفة الشهداء والتفاعل مع قضيتهم حين لا يوجد توثيق ولا تعريف بهم ؟ .هل سمعتم عن مشروع تكريمي موثق بالصور لمواساة أسر الشهداء والجرحى وجمع التبرعات لهم ؟ . لماذا نزايد بدمائهم وأنها سقطت لأجل مكسب سياسي بينما الحقيقة تقول أن من خرج يتظاهر خرج مناجزاً للظلم ثائراً على الطغيان ينشد الكرامة والعزة وانتزاع الحقوق ؟ . ماذا عن من مات من الجرحى لأنه لم يجد العلاج المناسب ؟ وهل يتناهى لمسامع القيادات صرخات الاستغاثة التي يطلقها بعض الجرحى في داخل البلاد أو خارجها ممن تقطعت بهم السبل هناك لمساعدتهم وإنقاذهم ؟ . باعتقادي أن الخيرين من أبناء الجنوب وغيرهم لن يقصروا لو تم تبني قضية الشهداء والجرحى بصورة واضحة وتحت إشراف يضمن لهم التصرف السليم في هذه الأموال .

ولعل الجمود وعدم الواقعية تتجلى في الاضطراب الشديد في تحديد عدد شهداء الحراك لحد الآن على رغم مرور 4 سنوات كاملة بل أكثر ! هناك من يقول أن عدد الشهداء 400 وهناك من يقول 550 وهناك من أوصله إلى 700 وآخر المطاف وهو ما ذكرته قناة سهيل استناداً إلى مصادر حراكية وصول العدد إلى 1000 . هل يعقل يا قوم أن يصل الاضطراب في تحديد عدد شهدائنا إلى هذا التباين الكبير بين الأرقام ؟ . اسمحوا لي أن أقول أن هذا الأمر إن دل على شيء فإنما يدل على عدم معرفتنا الحقيقية بالشهداء وعدم توثيق أسمائهم ورصدها وتعريف أبناء الجنوب بهم وبتضحياتهم , وربما تم خلط أسماء لا علاقة لها بالثورة والتضحية لمجرد تكثير العدد ظناً أن مثل هذه المزايدات تعطي للقضية زخم بينما هي كما ترون تدل على ضعف الحامل للقضية وعدم التنظيم والتجديد لديه .

أخيراً جاء اجتماع بروكسل وتطلعت الأعين إليه لنرى ما لجديد وهل يمكن للقيادة في الخارج أن تكون استفادت حقاً من التجارب الماضية وعملت غربلة ومراجعات لكل السياسات والأعمال والرؤى السابقة . وهل تأثرت هذه القيادات بربيع الثورات حتى تواكب ما جرى من متغيرات فتخرج بخطاب تجديدي أجمل وأكمل . ولكن مع الأسف لم يصدر ما يشفي الغليل وكأن الإجتماع عقد اللهم لمجاراة الإجتماع الآخر .

أخيراً .. تعيش تلك القيادات جميعاً بروكسلية أو قاهرية في ظروف مستقرة في الخارج بينما الجنوب اليوم يعيش حالة من القلق والاضطراب وبداية الفلتان الأمني . وهو ما ينذر بكارثة قادمة إن لم يشملنا لطف الباري وحفظه أو الذي في كنفه وحده نسير . وكنا نتوقع أن يكون لدى القوم همٌّ حقيقي للحفاظ على الجنوب وليتعاونوا مع أيٍّ كان ليجنبوا الجنوب هذه المصائب المقبلة بدلاً من الانشغال بفكرة سياسية مثل الفيدرالية أو الاستقلال قد يتسع الوقت لاحقاً للتباحث حولها ,في حين أن واجب الوقت يحتم الآن الحفاظ على أرواح الناس وممتلكاتهم . ولكن يظهر أن قيادات الخارج كما قيادات الداخل أعجز من أن تقوم بهذه المهمة مع الأسف الشديد .

قلت ما قلت وكتبت ما كتبت والنوايا يعلم بها الله فإن قست أحرفي على أحد فهي للمصلحة العامة التي أرانا جميعاً انشغلنا عنها للبحث عن أمجاد ومكاسب سياسية بينما البلد تمور به فتن ومعضلات كبيرة تريد من يقود البلد للخروج منها أولاً ثم بعد ذلك يحق لكل جهة طرح مالديها .