جارتنا الكبيرة لا تكرهنا، لكنها تعاني أيضا

25

القول بأن المملكة لا تريد لليمن أن يكون قويا بناء على نصيحة قديمة للملك المؤسس عبدالعزيز لأبنائه، وأنها لذلك تعرقل الثورة ولا تريد لها النجاح، قد يحتاج للمراجعة، والنظر لما هو أعمق من ذلك..
فثمة مشكلة عميقة يعاني منها النظام السعودي، كشفت عنها الأزمة اليمنية بوضوح، تتعلق بقدرة المملكة وإمكاناتها واستعدادها للتعاطي مع التحولات الراهنة.
لا أظن أن رغبة قادرة في الرياض تقف وراء مجريات الأمور في صنعاء بقدر ما هو انعكاس لأداء سياسي عتيق وضعيف في مراحل سابقة لم يكن بحجم أهمية اليمن لها. ولا بحجم حاجاتها المستقبلية والإستراتيجية أيضا..
ففي حين يمكن القول أن ليس للملكة كأولية الآن فيما يخص اليمن مقاربة أخرى غير المبادرة الخليجية المعلنة في إبريل الماضي، لنقل السلطة، والتي هي محل إجماع الخليج والعالم كخارطة طريق لتجاوز الأزمة وتجنيب البلد الانهيار والفوضى، ثمة فهم عميق تتقاطع فيه المملكة مع أشقائها الخليجيين والقوى الدولية بذلك الخصوص.
إلا أن ما يمكن قوله أيضا أنها لا زالت تفتقد لتصور جيد، خلاق ومبدع للتعاطي مع بعد نقل السلطة، يتطلب مقاربات وأداءات جديدة ليس منها سياستها القديمة التي اتبعتها منذ عهد بعيد.
ذلك في تصوري ما يمثل معضلة الدور السعودي الراهن، حيث تبدو كفجوة عميقة بين ما يحدث الآن في الوطن العربي وفي اليمن، وبين طبيعة النظام السعودي وأداءاته الجيوسياسية والإستراتيجية. فالواضح أن النظام الأسري العتيق لم يكن مجهزا للتنبؤ أو فهم التحولات الجديدة أو القدرة على التعاطي الجيد معها.
في 2009 إبان حرب الحوثيين السادسة التي دخلت فيها السعودية كطرف كتبت مقالا بعنوان "الطرق بشدة على أبواب المملكة" دعوتها فيه "للبدء الفوري في إستراتيجية جديدة تهدف لوقف التدهور الذي كان يحدث في اليمن، والعمل مع مختلف الأطراف المحلية على الإصلاحات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الشاملة كمصلحة جيوسياسية لها أيضا".
إلا أن المملكة لم تقدم على تدخل سياسي جاد، وأكتفت بالتعاطي الأمني مع الحرب الحوثية والتهديدات التي يمثلها تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، بدرجة رئيسية، وتعاط أقل لم يرى التنفيذ في الملف الاقتصادي مع مجموعة أصدقاء اليمن، فيما كان ملف النفوذ المالي الخاص والعتيق الذي كان يديره الأمير سلطان يعيش مراحله الأخيرة..
يتحدث وبشكل مفصل عن ذلك، تقرير حديث "مايو 2011" عن المعهد الملكي للشؤون الدولية "تشاتام هاوس" بعنوان "اليمن والمملكة العربية السعودية ودول الخليج: سياسات النخب واحتجاجات الشارع" من إعداد "جيني هيل" و"جيرد نونمان".
أهم ما يؤكده التقرير هو أن "نظام السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية لا يزال مفتقراً إلى القدرات الاستراتيجية المتقدمة والخبرات العملياتية وتجربة التطبيق المستدام". وأن أهمية اليمن للملكة «ليس من ناحية السياسة الخارجية، بل من ناحية الأمن الوطني، بل هو عن الاستخبارات والأمن والقبلية، والاتصالات غير الرسمية.».
يلخص التقرير وبشكل موجز طبيعة تلك الإدارة للملف اليمني، يقول: "منذ مدة طويلة أدار رسمياً ولي العهد الأمير سلطان ملف اليمن، وهو من كان يسدد المال إلى شبكته من المعارف والمخبرين، عبر المكتب الخاص "اللجنة الخاصة" التي يعرفها بأنها لجنة عائلية صغيرة أسسها سلطان ويرأسها، وظلت المقر الرئيسي لرعاية سياسة المملكة في اليمن طوال الثمانينات والتسعينات". إلا أنه "ضعف بدوره منذ سنة 2000 عام ترسيم الحدود، حيث يعتقد أن ميزانيته السنوية كانت 3 مليار ونصف المليار دولار سنوياً حتى العام 2000 حيث بدأ بالانخفاض، وفي أوائل العام الجاري 2011 ظل عددا من الأشخاص يتلقون الإعانات بالآلاف، لكن المتلقين أُعلموا في شهر أبريل بأن الدفعات ستتوقف بأمر من القصر الملكي".
ويذهب التقرير إلى أن "تدهور صحة الأمير سلطان والصراع بين الأسرة الحاكمة لإبعاده عن التأثير أدى إلى التحول المتزايد للبرنامج نحو فاعلين آخرين من آل سعود، ليصبح مشتتاً وفاقداً للتنسيق والإستراتيجية الواضحة".
يقول عن ذلك، " في السنوات الأخيرة، اضطلعت وزارة الداخلية بقيادة الأمير نايف بدور متزايد الأهمية في صوغ إدارة الملف اليمني، وفي 2009 أنشئ مجلس تنسيق مؤقت غير رسمي من أمراء رئيسيين. وفضلاً عن نايف، فقد أصبح لابنه محمد بن نايف، نائب وزير الدفاع والمشرف على برنامج المملكة لمكافحة الإرهاب دور ازدادت مركزيته، بينما قام مدير الاستخبارات الأمير مقرن والمقرب من الملك عبد الله بدور هام كذلك فيما يتعلق بالنشاطات عبر الحدود فيما يتعلق بالقاعدة".
ويذهب التقرير إلى أن إدارة الملف اليمني فيما كان ينتظر تغييراً جذرياً لما بعد عهد سلطان، فإن أزمة اليمن المتفاقمة، أجبرت القرار السعودي بمساعدة تسهيل الانتقال من عهد صالح، كالتزام مع دول الخليج والعالم، ينظر إلى تنحي صالح والمباشرة بعملية انتقال السلطة بشكل منظم كشرط ضروري لتجنب التمزق السياسي والإقليمي".
غير أن فقرة في نهاية التقرير تشير إلى شبه مقاربة سعودية لا أظن أنها قد اكتملت بعد للتعاطي مع ما بعد صالح قد يفهم منها أن صناع القرار السعوديين لا يزالون يفتقدون للقدرة على فهم ما يجري أو الخلق والإبداع للتعاطي مع التحولات الجديدة.. تقول "..وبينما تثق نخبة السياسة السعودية بأن تظل قبائل شمال اليمن فضلاً عن بعض الفاعلين المهمين في الجنوب، مع قنوات شخصية قابلة للإحياء مرة أخرى، يبدو جلياً وجود تفهم أقل للفاعلين الجدد والناشئين".
في حقيقة الأمر ليس غريبا أن يفكر السعوديون بمقاربة من ذلك النوع، فهم كانوا غائبين تماما عن المشهد السياسي اليمني وعن تطوراته الأخيرة منذ عشر سنوات على الأقل، فهم لم يكونوا على دراية جيدة بما يجري أو يكلفوا أنفسهم بمعرفته.
فلم يحدث أن وجدت سفيرا سعوديا شأن معظم السفراء الخليجيين بصنعاء على مدى السنوات الماضية، باستثناء قطر، أنه قام بالتوسط في الأزمة السياسية التي كانت تتشكل منذ ذلك الحين، أو قام بالتواصل مع طرف حزبي في البلد للتعرف على طبيعته وأفكاره.
بعكس السفراء الأمريكيين والغربيين عموما الذين كانوا حاضرين دائما في تفاصيل الأزمة اليمنية وعلى تواصل مستمر مع مختلف الأطراف السياسية والحزبية في البلد، وربما ذلك ما يفسر اضطلاع السفير الأمريكي بالدور الأكبر في التوسط لتنفيذ المبادرة الخليجية لدى الأطراف في صنعاء، والدور الكبير لأمريكا نفسها..
ثمة فهم ومعرفة عميقة بالأزمة تمتلكهما الولايات المتحدة وثمة ثقل لازالت تملكه المملكة في اليمن، أظن أن تجانسا سعوديا أمريكيا كما يحدث الآن ربما سيكون على مقدرة كبيرة لبلورة رؤية جيدة لما بعد نقل السلطة، فهو كأداء فيما يخص خلق الإجماع الدولي والإقليمي حول المبادرة الخليجية وفكرة نقل السلطة دستوريا كخطوة أولى لتجاوز الأزمة يبدو جيدا حتى الآن.
هناك ما يجب الإقرار به وهو أن الدور السعودي والأمريكي كمحور لثقل الدور الإقليمي والدولي أمرا متفهما من الناحية الجيوسياسية، كما أنه متطلبا لانجاز نقل سلمي وآمن للسلطة، كعنصر محكم ومحايد نفتقده محليا أشبه بالدور الذي لعبه الجيشان في مصر وتونس، وهو من أسياسيات متطلبات التحول الديمقراطي. أظن أن موقفا مناهضا لذلك الدور باستحضار تجارب سابقة، أمر يفتقد للقراءة الجيدة للواقع الجديد ومعطياته ومتطلباته.
الأمر ليس حبا أو كرها محضا، بقدر ما هو مصلحة جيوسياسية للبلدين، شخصيا، أتفهم أن يحدث بعض التوجس والتردد سعوديا في فهم وبلورة رؤية جديدة للتعاطي مع التحولات الراهنة في اليمن، غير أن أني على ثقة أن ثمة واقع جديد ومختلف سيفرض عليها في نهاية الأمر أداءات جديدة وجيدة للتعاطي معه.
ربما ستدرك المملكة أن تحالفا جديدا مع فكرة جيدة للحكم في اليمن يعبر عنها ديمقراطيا وتضمن بلدا آمنا ومستقرا وقادرا على التعامل مع مشاكله وأزماته المتفاقمة أفضل لها من آليتها العتيقة المتمثلة في الاعتماد على التحالف مع الأشخاص، كانت قد استنفذت غرضها وزمنها أيضا.

 

مقالات الكاتب