الثورة والقضية .... الأولوية والتلازم

39

الثورة الشبابية الشعبية التي اندلعت في أرجاء الوطن اليمني شماله وجنوبه ضربت أروع الأمثلة وسطرت أنصع الصفحات في نمط الثورات العربية ، وأن كان للمد الثوري العربي - الذي بزغ نجمه في تونس مرورا بمصر وليس انتهاء باليمن - تأثيراً في استنهاض همم الشباب ليأخذوا زمام المبادرة ويقودوا الثورة الشعبية ،إلا أن الثورة اليمنية  تميزت بسمات مشرفه لم تتصف بها الثورات العربية الأخرى وأهمها مشاركة المرأة بشكل ملحوظ وسلمية الثورة في بلد يملك ستين مليون قطعة سلاح وإصرار الشباب وصمودهم لبلوغ ثورتهم أهدافها وتحملهم للأعباء الجسيمة في مجابهة الآلة الدموية للنظام القمعي البوليسي الذي يحاول جاهداً جر البلاد إلى أتون الحرب الأهلية المدمرة .

لقد سجل أبناء اليمن ملحمة تاريخية لم يسجلها تاريخ اليمن أبداً، ورسموا لوحة جمالية زينت بوحدة الهدف والمصير ، ونسجوا بدمائهم الزكية الطاهرة نسيجاً أخوياً صادقاً عابراً للقرى والمحافظات .

وأمام هذه الثورة العظيمة وتلك التضحيات الغالية الهادفة للخلاص والانعتاق من أسر هذا النظام الاستبدادي القمعي الأسري نسمع بعض إخواننا في الجنوب يحرك شفتيه متمتماً بأن هذه الثورة لا علاقة لنا بها ولدينا قضية جنوبية وفقط!!! أو أن الثورة تلتف على القضية الجنوبية وتسقطها !! أو نحن يهمنا القضية الجنوبية ونريد لها حل سقط النظام أم لم يسقط !!

للأسف الشديد أننا سمعنا مثل هذا الكلام اللامسئول  ولم أكن أتوقع ونحن نعيش في خضم هذه الثورة وزخمها وتلك التضحيات الغالية أن ثمة عقول لم تنضج بعد وأن مرحلة اللاوعي لازالت تخيم عليهم وأن ضعاف النفوس يبقون كذلك سواءً في زخم الثورة أو  قبلها أو بعدها .

نقول لهؤلاء بوضوح لا لبس فيه ونحن من تراب هذا الجنوب العظيم ومن عمقه التاريخي الأصيل لمصلحة من تطرح مثل هذه الترهات في هذا الوقت ؟ولمصلحة من تخذل هذه الثورة ؟أليس هذا خنجراً غادراً يراد له أن يغرس في جسد هذه الثورة ليفت في عضدها ويفرق أبنائها ؟

القضية الجنوبية قضية حيوية هامة وتحتل صدارة القضايا الوطنية وتمثل جوهر وأس الأزمة اليمنية المعقدة نتيجة الوحدة المغدور بها ، وأضحت بمفهومها السياسي مسلمة من المسلمات لدى منظومة العمل السياسي التغيرية وذلك بحكم نضالات أبناء الجنوب الشرفاء . بل لا نبالغ إن قلنا أنها كانت الملهمة الأساسية لاندلاع الثورة الشبابية الشعبية في ربوع الوطن ، ولا يمكن لأي قوة سياسية كانت في جنوب الوطن أن تدعي خصوصيتها بهذه القضية أو تتجاوز أبناء الجنوب بمجموع قواه السياسية والشعبية , فهي قضية ملك لأبناء الجنوب جميعاً دون استثناء .

غير أن ثمة حقيقة لا يمكن تجاوزها أبداً وهي أن هذه القضية لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تأخذ مكانها الطبيعي قبل إسقاط نظام الديكتاتور علي صالح وسلطته الاستبدادية، المتسبب الرئيسي في إنتاج هذه القضية  ، بل يمثل إسقاط النظام البوابة الرئيسية للولوج إلى عمق هذه القضية للبحث في الحلول التي يتوافق عليها أبناء الجنوب جميعاً دون إلغاء لأحد. ولن يصل الجنوبيون إلى حقهم الطبيعي في استعادة شراكتهم الحقيقية القائمة على مبدأ أن الوحدة قد تمت بين دولتين استمدتا شرعيتهما وسيادتهما من الشعب والأرض إلا بعد أن يعمق الجنوب اصطفافه بكل مكوناته وأطيافه إلى جانب إخوانهم في الشمال لإسقاط هذا النظام أولاً وقبل كل شي كما يجسد ذلك شباب الساحات في عدن وصنعاء وتعز والحديدة وشبوة ...الخ .وفي نفس الوقت لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نقول أن الثورة قد حققت أهدافها دون الوصول إلى معالجة القضية الجنوبية معالجة شاملة وعادلة .

ولعل المؤتمر الذي عقد في القاهرة للقيادات الجنوبية كان واضحاً وجلياً بموقفه الداعم للثورة الشبابية ودعوته لقيادات الحراك الجنوبي النزول إلى الساحات ومشاركة الثوار في نضالهم الثوري الهادف إلى إسقاط النظام لإدراكهم بأن ذلك يمثل المدخل الصحيح لمعالجة القضية الجنوبية ويحقق وجود الجو الهادئ لوضع كل القضايا الوطنية التي عمل النظام على استهدافها وتشويهها على طاولة الحوار البناء وخصوصاً الوحدة اليمنية التي عمل على الانقلاب عليها وإجهاض مشروعها الحضاري النهضوي ليعاد صياغة عقد الشراكة بما يحقق بناء الدولة المدنية المؤسسية الديمقراطية  القائمة على العدل والمساواة والهادف لإيجاد حياة حرة وعيش كريم لأبناء اليمن من أقصاه إلى أدناه...