أمريكا وحفل توديع صالح

27

طبقاً لموقفها المساند ضمنيا لصالح حتى الآن، تبدو واشنطن غير معنية بالثورة الشعبية المتصاعدة في اليمن. إذ لا تزال المهمات التي تنتظر قوات مكافحة الإرهاب أهم في نظرها من قوة الشارع اليمني وساحاته الصاخبة.

 

ذلك ما يتم الترويج له في العلن. غير أن التصريحات الشحيحة بهذا الخصوص تخفي بين سطورها شجوناً أخرى. وكأن مطالبة اليمنيين لرئيسهم بالرحيل عن السلطة فجأة، أمر لا يبدو مثالياً بالنسبة للإدارة الأمريكية. ليس لأن خبيرا استراتيجيا في محاربة الإرهاب سيترك منصبه. بل لأن ثلاثة عقود من التعامل مع الرجل تستدعي هواجس عديدة، بعضها يتعلق بما تم الإعلان عنه، وما خفي من الهواجس قد يتعلق بضمان التأكد من أن التقاعد الإجباري، لن يدفع الصديق القديم إلى البوح بأي نوع من الأسرار المحرمة. كحديث سيف الإسلام القذافي عن تمويل طرابلس للحملة الانتخابية التي أوصلت ساركوزي إلى رئاسة فرنسا!

 

إنهم ولا شك يعرفون طباع هذا الصديق المزمن، ولا بد أن من يجيد تهديد شعبه باحتمالات الفوضى وسيناريوهات التمزق، يجيد كذلك تهديد حلفائه، لذلك يعتبرون أنفسهم شركاء في الترتيب لحفلة الوداع. ثم أن تداعيات إصراره على التشبث بالحكم قد أصبحت تشكل خطراً مضاعفاً على الخارج قبل الداخل، وبخاصة بعد تمكين المتطرفين من السيطرة على اجزاء من أبين وشبوة بتواطئ رسمي فاضح. ولا يستبعد أن البيت الأبيض يخشى أن يؤدي الرحيل غير المشرف أو غير الآمن إلى ولادة جماعة ارهابية يقودها رئيس مخلوع. تلك افتراضات يستدعيها تلكؤ بات يغضب تحالفات شباب الثورة وقادة أحزاب المعارضة.

 

الأشخاص وليس المراكز

ربما كان الموقف الأمريكي سيختلف قليلاً، ويتزحزح من دور الوسيط المحايد إلى دور الوسيط الضاغط. غير أن تطورا كهذا كان يحتمل أن يهيمن على الحوارات الجارية، لو أن دبلوماسيا أمريكيا غير جيرالد فايرستاين هو من يتابع المستجدات في صنعاء ويستشرف مآلاتها. ذلك أن الأمر يتعلق أحياناً بالأشخاص وليس بالمراكز التي يمثلونها. فقياساً بسخونة الأوضاع الراهنة، يبدو أن السيد جيرالد يتواجد في المكان الخطأ.

 

يقول دبلوماسي محلي كبير يعمل في الخارج، إن فايرستاين يعد الأقل خبرة من بين كل الذين سبقوه بلا استثناء، وان القناعات التي قد يتوصل إليها إثر لقاء يجمعه بهذا الطرف سرعان ما تتبخر عندما يلتقي الطرف الآخر وهكذا.

 

ربما يتطلب الأمر ترتيب خيمة في إحدى ساحات التغيير، ليقيم فيها صاحب السعادة مؤقتاً، لعله يقتنع بأن ثمة ثورة تغلي في اليمن، وأن بوسع من يتأمل الإصرار في عيون الثوار أن يرفع منذ الآن نخب الحرية القادمة.

 

لقد تحول الرجل خلال الأيام الماضية من سفير دولة توصف بالعظمى إلى ما يشبه الوسيط المحلي بين الرئيس والمعارضة، رغم أن دورا كهذا يمكن أن يؤديه شيخ قبيلة، أو سياسي متقاعد لا يخشى أن تناله لعنات المتحمسين لمحاكمة صالح.

 

تلك أيضاً مهمة يمكن أن يقوم بها أي شخص تروقه لأسباب شخصية فكرة الخروج الآمن للرئيس والأتباع، وتالياً الوسطاء الغامضين والجهات الاعتبارية التي يمثلونها.

 

لكأن الإلحاح على ما يوصف بالخروج الآمن بات أمراً يخص من يسعون إليه أكثر من صالح نفسه. ما يخص الأقارب أصبح معروفاً، لكن ما يخص الخارج لا يزال غامضاً، وإن كان يتستر خلف ملف القاعدة والإرهاب.

 

لنأمل أن لا يتلقى السيد جيرالد هذه الانتقادات على الطريقة اليمنية أيضاً. ولنأمل أن يكون أحدهم قد أخبره بأن اليمن تعيش حالياً أجواء ثورة شعبية، وأن الوقت لم يعد يسمح لهذه الثورة بأن تتراجع إلى مرتبة الأزمة السياسية التي يمكن حلها بالتفاوض.

 

لقد أصبح توق اليمنيين للتغيير مسألة مصيرية تجاوزت مرحلة استقواء السياسيين بالشارع، الأمر الذي يجعل من استمرار الوفاق بين واشنطن ودار الرئاسة في صنعاء يبدو على تضاد مع مستقبل شعب بأكمله.

مقالات الكاتب