بلقيس
سجينات ضحايا المجتمع والدولة
كانت رُقيّة (اسم مستعار)، تسابق الزمن بعد أن وجدت نفسها أسيرةَ أربعةَ حيطان بتهمةٍ هي برئيةٌ منها كما تقول، وظلت تتلهف شوقًا لذلك الصباح الذي ستعانق فيه أهلها والحرية معًا تحت أشعة الشمس الحارقة، وحين آن لذلك الصباح أن يأتي حاملًا لها البشرى بقرار الإفراج عنها، انصدمت بواقعٍ مريرٍ بعاداتِه وتقاليده التي ألقت بظلالها عليها كونها امرأةً يمنيةً لَفْظُ اسمها أمام الناس عورة.
رُقيّة هي إحدى النساء السجينات اللاتي رفض أهاليهن استلامهن بعد انتهاء فترة حكمهن، تقول وهي تحكي قصتها لـ"خيوط": "بعد شهر من دخولي السجن برفقة طفلي، وبعد أن حققوا معي وثبتت براءتي، قرروا أن يطلقوا سراحي وكان لدي أمر بالإفراج، لكن لم يأتِ أحدٌ من عائلتي لأخذي، وبقيتُ في السجن".
العادات والتقاليد اليمنية لم تكُنْ يومًا مناصرةً للمرأة، بل سعت على الدوام إلى التهوين والاستنقاص منها على مر العقود وحتى وقتنا المعاصر. ورغم تعاظم مكانة المرأة وإشراكها في الكثير من الأمور في الحياة على الصعيد الاجتماعي والسياسي التي شهدتها المجتمعات العربية في السنوات الأخيرة، ظلَّ المجتمع اليمني المتحفّظ ينظر إلى المرأة نظرةً ناقصةً وقاصرةً، ويواصل الإجحاف في حقِّها ويستهين بقدراتها.
ويعتبر انخراطها في المجتمع أمرًا معيبًا، وارتكابها خطأً جريمةً لا تُغتفَر، ودخولها السجن عارًا على الأسرة، وسرعان ما يتخلون عنها ويتنصلون من الحقوق والواجبات المناطة بهم تجاهها، وهذا ما حصل مع رُقيّة، إذ بمجرد أن دخلت السجن فقط لمدة شهر وبراءتها مما اتهمت به، تخلت عنها أسرتها، تتابع القول: "زوجي تُوُفي بالحرب وأبي تُوُفي أيضًا، وتبقى لي من أهلي أمي وأخوالي، لكنهم لم يأتوا لاستلامي من السجن؛ لأنهم يعتقدون أن دخولي السجن عارٌ كبيرٌ عليهم، ومستحيل أن يتقبلوني".
تفقدُ المرأة اليمنية احترامها وتسقط كرامتها أمام المجتمع عند دخولها السجن إثر اقترافها عمل غير قانوني، أو حتى لمجرد أن تكون محل اشتباه يتم احتجازها فيه خلال فترة التحقيق فقط وبراءتها من التهمة التي وجهت لها، لكن موقف المجتمع على مستوى الأسرة نفسها لا يتغير إزاءها وتبقى نظرات الاحتقار والازدراء تلاحقها أينما وجدت
ويؤكد المقدم عصام الكامل، مدير الإصلاحية المركزية بتعز، لـ"خيوط"، أن هناك قرارات من النيابة العامة بالإفراج عن بعض النساء ولكن أهاليهنّ كانوا يرفضون استلامهنّ، وتضطر إدارة السجن إبقائهنّ فيه رغم براءتهن، إلى أن تواصل معهم اتحاد نساء اليمن لأخذهن.
ويصل عدد النساء السجينات في السجن المركزي بتعز، منذ العام 2018 حتى العام الجاري، 81 سجينة، وكانت قد صدرت قرارات بالإفراج عن 64 سجينة منهنّ، و17 سجينة لا يَزلْنَ قيد الاحتجاز، بحسب إدارة السجن.
وفي أبريل/ نيسان من العام الماضي، تعرض السجن المركزي لقصف مدفعي من قبل جماعة أنصار الله (الحوثيين)، وأسفر عن مقتل خمس نساء من نزيلات السجن، وإصابة 28 أخريات، وفق ما أعلنه مكتب الصحة بالمحافظة آنذاك.
الملاذ الوحيد
رفضَ أهل رُقيّة استلامها من الإصلاحية المركزية "السجن المركزي" بمدينة تعز، وظلت فيه ستة أشهر، حبيسة العادات والتقاليد لا أكثر، ففي الأساس قد صدر حكم ببراءتها، ظلت حتى قام مركز الحماية والتأهيل للنساء والفتيات بأخذها من خلال تنسيق اتحاد نساء اليمن فرع تعز مع إدارة الإصلاحية.
وفي هذا الصدد، تقول شادية راجح، رئيس المركز، لـ"خيوط": أنها أُجبرت على إنشاء المركز بعد أن وصلتها معلومات بوجود نساء في السجن المركزي بتعز لديهُنَّ أوامر بالإفراج بعد أن ثبتت براءتهنّ، ولكن رفضت أُسرهنّ استلامهن".
يعمل المركز أو ما يعرف بدار الإيواء، الذي أُنشئ بمطلع العام الماضي، بتقديم الرعاية والتأهيل للنساء المفرج عنهن، اللاتي رفض أهاليهنّ استلامهنّ، وأصبح بمثابة المنزل والعائلة والملاذ الوحيد لرُقية وللكثير من النساء اللاتي اشتركنّ مع رُقية المصير ذاته، تضيف رُقيّة: "استملني المركز من السجن، وحتى الآن وأنا أعيش فيه أنا وابني وأعتبره منزلي، وتدربت فيه على الخياطة ومهارات كثيرة".
إضافةً إلى ذلك، يعمل المركز على إعادة تأهيل السجينة المفرج عنها، نفسيًّا وإعادة الثقة بنفسها وبالمجتمع؛ لأنها، بحسب شادية، تنهار وتتعقد حياتها بسبب دخولها السجن، إلى جانب رفض أهلها استلامها.
واستلم المركز منذ بداية إنشائه حتى الآن 19 سجينةً من المفرجات، وتتواجد فيه حاليًّا تسع نساء مع ثلاثة من أطفالهن، وفي السابق قام بتزويج فتاتين منهنَّ، والسماح لاثنتين أُخرَيَين بالخروج من المركز، إذ يعمل على تزويج الفتيات إن أردن ذلك، أو السماح بالخروج لمن أصبحت مؤهلةً ومتمكنةً وقادرةً على الاعتماد على نفسها ومجابهة المجتمع، فلا توجد فترة محددة للبقاء في المركز، وفق شادية.
كرامة مسلوبة واحترام مفقود
تفقدُ المرأة اليمنية احترامها وتسقط كرامتها أمام المجتمع عند دخولها السجن إثر اقترافها عمل غير قانوني، أو حتى لمجرد أن تكون محل اشتباه يتم احتجازها فيه خلال فترة التحقيق فقط وبراءتها من التهمة التي وجهت لها، لكن موقف المجتمع على مستوى الأسرة نفسها لا يتغير إزاءها وتبقى نظرات الاحتقار والازدراء تلاحقها أينما وجدت وحلت، كما تقول رُقيّة: "بعد دخولي السجن أصبح الجميع ينظر لي باستحقار، وأول ما يدخل الشخص السجن يفقد احترامه وكرامته بين الناس".
تتأصل الأعراف والتقاليد المحاطة بالمرأة اليمنية في الكيان الأسري على غرار تعاملات المجتمعات القبلية القديمة التي ترى في المرأة العرض والشرف والستر والتعفف.
تلك التعاملات كانت مُعنِّفةً للمرأة وتسلبها حقوقها، وحدث أن وصلت للقتل والتصفية تحت ذرائع الحفاظ على شرف الأسرة وسمعتها في المجتمع، لا سيما إن تشاركت الحب مع رجل لا تربطها معه علاقة شريعة، أو دخولها السجن إزاء ذلك أو غيرها من الأخطاء العادية، وهو الأمر الحاصل في عصرنا هذا، وتعتقد شادية أن المجتمع اليمني لا يحكمه الحلال والحرام والشرع، بل العادات والتقاليد فقط، وهو ما تراه معيبًا، وترى أن اقتراف المرأة لخطأ معين تكون الأسرة نفسها مشاركة فيه.
المجتمع اليمني بطبيعته يسوده الجهل خصوصًا في التصرفات والمواقف الأسرية، ما يجعله بحاجة للتوعية والعمل على تصحيح مساره، كتوعية أُسر السجينات، وإقناعها بأن ابنتهم التي كانت سجينة أو قد أُفرج عنها، ما زالت تنتمي لهم، والتخلي عنها يجعلها ترتكب المزيد من الأخطاء، وتعتبر شادية أن تلك حلول ناجعة، وسبق أن عملت عليها واستطاعت أن تعيد خمس فتيات ممن رفض أهاليهن استلامهن.
قصور تشريعي وقانوني
بالعودة للدستور اليمني حول وجود قانون يُلزم الأسرة باستلام ابنتها من السجن بعد الإفراج عنها، لم نجد هناك قانونًا بهذا الخصوص، ورفْضُ الأهالي استلامَ ابنتهم ناتجٌ عن قصور تشريعي وقانوني بعدم إلزامهم، كما يقول المحامي والناشط الحقوقي، ياسر المليكي.
ويضيف، في حديثه لـ"خيوط": "إن استلام الأسرة لابنتها السجينة المفرج عنها، يعود في الوضع الحالي إلى مدى وعي الأسرة، وأيضًا إلى الأعراف والتقاليد التي تحكمها".
بالمقابل، عند رفض الأهالي استلامهنّ كان السجن يعمل على إبقاء تلك النسوة خلف القضبان؛ لأن الإفراجات، بحسب الكامل، تكون مشروطة بتسلمهنّ للأهل فقط.
وتتعرض السجينة المفرج عنها لصدمات نفسية عميقة جراء عدم قبولها لدى الأسرة والمجتمع، بالإضافة إلى الظروف المعيشية القاسية التي تعيشها خلف القضبان، تلك الصدمات النفسية تنعكس سلبًا على تصرفاتها، التي لربما قد تصل إلى إلحاق الضرر بنفسها وفقدانها الثقة والسلام الداخلي، وبالتالي يصبح من الضرورة الحتمية إعادة تأهيلها وتقويمها نفسيًّا.
وفي هذا الخصوص، يرى المليكي، أن المسؤولية تقع على عاتق الدولة في توفير مراكز رعاية وتأهيل وتدريب، تخرج تلك المرأة من عزلتها الاجتماعية، مشيرًا إلى أن ذلك من حقوقها التي يكفلها القانون.
خيوط