بلقيس
كفاح من أجل التعليم في المدينة
يمثّل التعليم أحد أهم الطرق للخروج من دائرة الفقر، وتفادي الوقوع الأطفال ضحايا لمخاطر كثيرة مثل الانضمام إلى القتال، العمالة والزواج المبكر. ولكن بالنسبة للكثير من الأطفال عالميًا، هناك الكثير من العقبات التي تحُدّ من إمكانات التعليم، مثل الحرب، عدم توفر البنية التحتية، والتقاليد خصوصًا تلك التي تجبر الفتيات على ترك المدارس. تجاوزت عهد طه كل هذه الحواجز حتى تمكنت من مواصلة تعليمها في محافظة عدن. هناك واجهت عائقًا إضافيًا كاد يدفعها إلى الاستسلام: التنمر.
كان الحصول على تعليم أفضل هو حلم عهد طه التي لم يتجاوز عمرها بعد ١٥ سنة. وجدت فرصة لتحقيق هذا الحلم عندما قررت عائلتها الذهاب إلى عدن، أو «مدينة الأحلام» كما تصفها طه.
كانت عائلة طه تقُيم في قرية الأيفوع، التابعة لمديرية القَبَيْطة الواقعة على الحدود بين محافظتي لحج وتعز. مثل الكثير من القرى الأخرى، يعاني سكان قرية الأيفوع من غياب بنية تحتية ملائمة، من انقطاعات في المياه والكهرباء إلى ارتفاع مستويات البطالة وانخفاض مستويات التعليم.
تسبب النزاع العنيف، وتأخر عجلة التنمية والفقر في حرمان أكثر مليوني طفل في اليمن من حقهم في التعليم. وهو ما يُعرّضهم للكثير من المخاطر منها عمالة الأطفال و الالتحاق بالجماعات المسلحة. «ما بين مارس 2015م وفبراير 2021م تم تجنيد أكثر من 3,600 طفل في اليمن ضمن القوات والجماعات المسلحة» و «انخرط 1,3 مليون من أطفال اليمن ممن تتراوح أعمارهم بين 5 و17 عامًا في عمالة الأطفال»، حسب تقرير لمنظمة اليونيسيف صدر في يوليو 2021م بعنوان عندما يتعرقل التعليم.
تأثير جميع هذه العراقيل مضاعف على الفتيات. حسب نفس تقرير اليونيسف، «72,5 في المئة من الفتيات في اليمن يتزوجن في سن مبكر، أي دون 18 سنة، حيث يكاد يكون من المستحيل على الفتاة التي تتزوج مبكراً مواصلة تعليمها». «أجبرت تقاليد القرية القديمة كثيرًا من الفتيات على مغادرة مقاعد الدراسة، بحجة أن المرأة مكانها المنزل، إضافة إلى ضعف التعليم في القرى»، تفسّر أم عهد، سميرة ردمان. ولكن طه لم تتوقف عن الدراسة في القرية لأن والدها، طه القباطي، لم يؤمن بهذه المعتقدات، «بحكم عمله في المدينة واختلاطه بأصدقاء هناك.» كان الأمل إذا أن تواصل طه تعليمها على أمل الحصول على شهادة تستطيع من خلالها العمل في مهنة شريفة تساند بها إخوتها.
رحلة الذهاب
في 2017م، قرر أشقاء طه الثلاثة، بعد وفاة والدهم، ترك القرية والهجرة إلى محافظة عدن سعيًا لفرص عمل أفضل. في عام 2019م، التحقت بهم طه ووالدتها وشقيقتها. هكذا بدأت اللمسات الأولى لحلم طه تتكون.
استقرت العائلة المكونة من ستة أفراد في منزل مستأجر متواضع للغاية في حي الممدارة القديم في مديرية الشيخ عثمان، مكون من غرفتين ومطبخ وحمام. «رغم الظروف المادية الصعبة التي واجهناها بعد فقدان زوجي، كانت عهد تصّر على مواصلة تعليمها»، تحكي أم عهد. هكذا التحقت طه بإحدى مدارس عدن في الصف الأول ثانوي.
جلست طه، ويداها تعانق ذراعيها، تتذكر بألم المواقف التي انطبعت بذاكرتها. منذ بداية دراستها، تعرضت طه للتنمر من طرف زميلاتها في الدراسة. «لم أكن أسلم من غمزات وضحكات بعض الطالبات عندما أتحدث بلهجتي الريفية، وكذا على ملابسي وأدواتي المتواضعة بسبب ظروف عائلتي المادية»، تقول طه.
لم تجرؤ أسرة طه البسيطة على مواجهة المدرسة بشأن التنمر. أمل سعيد*، معلمة اللغة العربية في مدرسة طه، قالت أنها لا تعرف شيئا عن هذا الأمر.
«التنمر مشكلة حديثة في المدرسة»، تقول سعيد. «أوليًا، كانت تقتصر فقط على الطالبات ذات المستوى الضعيف حيث يوصفن بـ ‹الفاشلات›». تضيف سعيد أنه هناك إنذار للطالبات أنه «في حال عدم توقف التنمر ستلجأ الإدارة إلى استدعاء أولياء الأمور»، وأنه يمكن أن يصل العقاب للفصل من المدرسة.
تفسر الأخصائية في علم النفس الاجتماعي د. إيزيس عبدربه المنصوري أن أشكال التنمر متعددة. «قد يكون التنمر جسديًا ويترك أضرارا قصيرة وطويلة المدى، فهو إيذاء بدني»، تقول د. المنصوري، أو قد يكون عاطفيا «عن طريق جرح المشاعر لفظيًا بشكل مباشر، مثل الإهانات والتجريح عن طريق التعليقات الساخرة، ونعت الآخر بتسميات غير أخلاقية أو مسيئة لمظهره.» للتنمر آثار نفسية سلبية كثيرة على الطالب المتنمر عليه مثل «ترك المدرسة أو يكبر بشخصية ضعيفة سلبية أو يصبح عدائيًا»، تقول د. المنصوري.
دام هذا التنمر أربعة أشهر كاملة، كادت أن تجعل طه تترك عدن وتعود إلى قريتها. ولكن عزيمة طه على مواصلة دراستها انتصرت في النهاية.
حلفاء التعايش
تمكنت طه من تكوين صداقات مع فتيات تعرضن لتنمر مشابة في المدرسة، كما أن أسرتها تعهدت بمواجهة المدرسة إذا استمر التنمر في العام الدراسي الجديد. «بعد فترة بدأتُ أعتاد على الدراسة، وبدأت زميلاتي بمساعدتي»، تصف طه مرحلة التغيير التي تبعت التنمر. «كنت قد قررت العودة إلى القرية، لكن زيارة زميلة لي إلى بيتنا المتواضع وحديثها مع أمي ومحاولة إقناعي أعاد لي كثير من الثقة التي فقدتها بداية دخولي المدرسة.»
تؤكد الأخصائية د. المنصوري، أن القضاء على ظاهرة التنمر يكمن في «مدى إقرار مؤسسات التنشئة الأسرية والمدرسة بتلك الظاهرة التي يجهلها الكثير من الأطفال وحتى للأسف الأسر أنفسهم.» تشجيع أسرة طه لها، وإيجاد صديقات تتشارك معهن عبء التنمر عاملان أثرا كثيرا في مسار
تجربة طه.
كذلك يجب تعليم الأطفال وتثقيفهم في فهم ظاهرة التنمر لتفادي حالات متجددة منها، ولكي «لا تترك أثرًا في مسيرة حياتهم الدراسية والحياتية ويستطيعون إكمال مشوارهم بحالة صحية تساعدهم على التعايش مع جميع الأفراد في المجتمع»، تقول المنصوري.
ولكن يمكن أن تجبر الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها المدينة، من ارتفاع أسعار المواد الغذائية وإيجارات المنازل، أسرة طه على ترك عدن. أخوها عمار، ٢٧ سنة، الذي يعمل ككهربائي، مازال مؤمنا أن قوة وثبات الأسرة ستساعدهم جميعا على الصمود، وهو يعول على مثابرة أخته وعدم استسلامها.
«عدن مدينة الحب والسلام وأبنائها ورثوا طبيعة مدينتهم، فاستقبلونا بكل سعة صدر،»
يقول عمار.
رغم ذلك، فطه قلقة من ألا تتمكن من تحقيق حلمها بأن تصبح طبيبة. «بعد كل الصعوبات التي واجهتها، لا أريد أن أشعر بخيبة أمل». تشجيع أسرتها، تكافل زميلاتها معها وإيمانها بحلمها المشرق كلها عوامل ساعدت طه على تجاوز التنمر وتأثيراته السلبية والوصول للسنة الثانية في الثانوية. هذه العوامل نفسها بالتأكيد ستساعدها مستقبلًا في جميع مراحل حياتها.
* اسم مستعار